من هم الأكراد؟
الشعب الكردي من الشعوب الآرية والفروع الإيرانية ، فهم بذلك من دوحة الإيرانيين والأفغانيين والأرمن ، ولا صلة لهم بالعربية والقحطانية ، ولا بالآشوريين والمديانيين القدماء ، كما يظنه بعضهم، فهم عريقون في القدم منذ آلاف السنين ، ولكن التاريخ لم يحط بعد علماً بمنشئهم ، والعهد الذي جاؤوا فيه ، واحتلوا بلادهم وجبالهم المعروفة باسمهم ، وهي الآن متوزعة بين دول العراق وتركية وإيران ، وتمتد من جنوبي أرضروم وأرزنجان وضفاف بحيرة وان ، وشرقي الدجلة إلى قرب خليج البصرة طولاً ، ومن شرقي مرعش إلى غربي أرومية والموصل وأصفهان عرضاً ، ناهيك الجاليات الكردية المبعثرة في بلاد الأناضول والشام وإيران وبلوجستان والأفغان وروسيا ، ويقدر العارفون مجموع هذا الشعب بنحو خمسة ملايين.
والكرد ذوو أطوار مختلفة ، ولهجات متعددة ، وكلمات منشقة ، ذلك بحكم اتساع ديارهم ، ووفرة جبالهم الشاهقة وأوديتها السحيقة ، وانقسامهم في الذروات والوهــدات على هيئة عشائر عديدة ، فهم لم يؤسسوا في أي زمن دولة مستقلة موحدة مستندة على أساس الجنسية ، رغم الثورات والمحاولات العديدة التي قاموا بها فأخفقوا ، وقصارى ما أوجدوه إمارات متفرقة صغيرة المساحة سريعة الزوال ، وقد ظلت بلادهم المذكورة طوال القرون الغابرة ، مسرحاً للحروب والفتن ، ومعتركاً للجيوش المتقاتلة ، ومطمعاً للفاتحين من الدول المختلفة كالآشوريين والإيرانيين واليونان ، والرومان والعرب والترك والمغول ، ونالها بحكم وقوعها بين أحجار الرحى كثيراً من الأذى والخراب ، إلا أن الكرد قد قاوموا هذه الغارات والمناحرات ، وحفظوا كيانهم ولغاتهم وسجاياهم القومية ، وقد كانوا قبل الإسلام كالفرس على العقيدة الزرادشتية ، واشتركوا معهم في مدافعة الجيوش العربية المغيرة ، ثم أسلموا وحسن إسلامهم ، لتوافقه مع ما جبلوا عليه من الخلال، واشتركوا في جميع القلاقل والحروب التي نشبت في عهد الأمويين والعباسيين والبويهيين والسلجوقيين ، وعملوا في خدمة الإسلام والذود عن حماه ، أثناء الغارات المغولية والحروب الصليبية ، وكفاهم فخاراً أن البطل العظيم صلاح الدين بن أيوب وأنجاله وأقاربه ملوك بني أيوب منهم ، وأنهم كانوا من جملة حزبه وجنوده يلبونه كلما استجاشهم .
والأيوبيون كما يعلمه المطلعون على التاريخ – وعلى رأسهم مؤسس دولتهم صلاح الدين – نصبوا أنفسهم حماة عن الإسلام وذادة عن أهله ، ضد الصليبيين الأوربيين الراغبين في الاستحواذ على بلاد المسلمين ، باسم استخلاص بيت المقدس ، فوقفوا دونهم سداً منيعاً ، وصارعوهم أمداً طويلاً ، ومنعوا توغلهم في بلاد المسلمين خاصة ، وبلاد الشرق عـامـة ، فلم يستطيعوا أن ينالوا في تلك العصور المتوسطة ما نالوه في العصور الحديثة ، وكم للأيوبيين من موقعة أذلوا فيها أنوف الفرنجة ، ونهنهوا من كبريائهم ، وفي كتاب ( الحزيـدة ) للعماد الأصبهاني وكتاب ( الروضتين في أخبار الدولتين ) للمقدسي شرح لهذه الحروب ، وما لابسها من خطب وأشعار ، تثير الحماس، وتبهج الصدور ، وتستمطر الرحمة على أولئك الأبطال الغر الميامين .
ولم يقصر ملوك بني أيوب في تقريب العلماء والنابغين ، وقد أنشأ كثير منهم المساجد والمباني الخيرية ، ورتبوا الدروس وشجعوا العلوم والآداب العربية ، وأسدوا ضروباً من البر والإحسان كثيرة ، لولا أن دولتهم لم تعمر إلا نحو ثمانين سنة ( ٥٦٧ ـ ٦٤٨ هـ ) لضعف ملوكها المتأخرين ، ووقوع الخلف بين صفوفهم ، وطغيان نفوذ مماليكهم الذين جلبوهم واستصفوهم ، وأسسوا بعدهم دولة السلاطين المماليك على ما فصلته كتب التاريخ . وكما كان الكرد الجند الخاص لملوك بني أيوب وعمدتهم ، صاروا من بعد أنصار وجنود شاهات إيران وسلاطين آل عثمان ، والتاريخ الإيراني والتاريخ العثماني كل منهما طافح بالوقائع الدالة على خدمات الكرد لهؤلاء ولأولئك ، وما ضحوه في سبيل الدول التي تحسن معاملتهم ، وتستغل بسالتهم واستعدادهم الحربي .
هل الأكراد مسلمون؟
وأكثر الكرد مسلمون سنية شافعية ، وبعضهم في تركية وإيران شيعة جعفرية ، ومنهم من لايزال على دينه القديم المعروف بزرادشت ، ومنهم أناس في أنحاء المـوصـل ، يدعون ( إلهية علي ) يشبهون علوية جبال اللاذقية ، وآخرون يدعون ( شاباك ) لا يعرف مذهبهم على التحقيق ، أما الذين في جبل سنجار شمالي العراق فهم يزيدية ، وبعض الكرد شبه رحل يصيفون في الجبال ، ويشتون في السهول والأودية ، ويقول ( أمين زكي ) في كتابه ( تاريخ الكرد والكردستان ) ص ۲۹۲ :
« ليست الصفات القومية والأخلاق والعادات العامة في العشائر الكردية متحدة كلها ، بل إن هناك فروقاً واختلافات بارزة بين تلك الصفات والمزايا في جميع العشائر تقريباً ، فإعطاء وصف عام عن الكرد في هذا الشأن يبعدنا عن الحقيقة ، إلا أنه يمكن أن يقال أن الكرد في الجملة أرباب زرع وضرع ، وأهل حرب وفتك ، ويعدون من أحسن العناصر في الجندية ، ومسالك الدرك والخفارة، كما أن نساء هم عاملات مجدات يتقن كثيراً من الأعمال المنزلية ، ويشاركن الرجال في الحروب والحفلات » انتهى.
لغة الأكراد
واللغة الكردية لغة آرية ، انفصلت مع اللغة الفارسية من أصل واحد ، وقد انقسم كل منها إلى عدة لهجات ، فلهجات اللغة الكردية مختلفة عديدة لم يعمل أحد على توحيدها ، وعلى إيجاد أبجدية خاصة ، وكتابة مشتركة ، وافية بحاجات جميع لهجاتها ، وقد أدى هذا إلى تباعد اللهجات بعضها عن بعض حتى غدت كأنها لغات مختلفة ، يكاد لا يفهم أصحابها ما يقوله غيرهم .
صفات الأكراد
ويغلب على الأكراد طول القامة ، وعرض الهامة وضخامة البنية ، واستدارة الوجه وعرضه واسمراره ، وبروز الأنوف وطول الشوارب وغلظها ، وكبر العيون واسودادهـا وبروقها ، كما تغلب عليهم نزعة البطش والرجولية الحقة ، فهم محاربون وفرسان من الطراز الأول ، ، ومن هنا لبسهم هذا الاسم وهو ( الكرد ) ، الذي يدل في الفارسية على الرجل الشجاع البطل ، وأكثر ازدحامهم في السليمانية وكركوك وراوندوز وإربل وسعرد وبتليس ووان وأرومية وكرمانشاه وغيرها .
تاريخ الأكراد الحديث:
أمـا تـاريخ الكرد الحديث فهو سلسلة من الثورات ، التي كانت ترمي إلى التخلص من النير العثماني والإيراني المشترك ، وأهم هذه الثورات ما نشب في مستهل القرن ١٣ هـ قام بها رجل يدعى عبد الرحمن باشا ، فنادى باستقلال الكرد ، وراح يعمل لتوحيد جميع البلدان الناطقة بالكردية ، لكن الحملة التي جهزها والي بغداد بأمر الباب العالي أجهزت على هذه الحركة.
وأعاد الأكراد محاولاتهم بعد ذلك في سنة ١٢٤٢ و ١٢٩٤ و ١٣٠٣ و ١٣١٧ هـ وغيرها ، ولكن مصير هذه الثورات كان الإخفاق بعد تكبد خسائر كبيرة بالأرواح والأموال ، وبعد الحرب العالمية الأولى وانكسار الدولة العثمانية ، ظن الأكراد أن فجر استقلالهم سيبزغ بعد التضحيات التي قدموها ، فقاموا بإرسال الوفود ، وتطيير البرقيات إلى مؤتمر السلام ، فأقرت معاهدة سيفر بحقوق الكرد وباستقلال ( المناطق الكردية الواقعة في شرقي الفرات وجنوبي أرمينية وشمالي الحدود التركية العراقية ) .
لكن هذا الاعتراف ظل حبراً على ورق ، لقيام مصطفى كمال باشا بثورته المعروفة ، وتمزيقه معاهدة سيفر ، واستبدالها بمعاهدة لوزان التي تجاهلت مطالب الأكراد .
قلنا إن الأكراد ينزلون في مناطق متقاربة متجاورة بين إيران وتركيا والعراق فهم كما ثاروا على الحكومة التركية وقاتلوها غير مرة ، ثاروا على إيران وعلى العراق أيضاً . وكانت القوات المنظمة في كل مملكة من هذه الممالك تتغلب عليهم ، وتخمد حركتهم في النهاية.
ولعل في مقدمة ما يستوقف النظر من هذه الحركات الكردية أنها حدثت في أوقات متقاربة في تركيا وفي العراق وفي إيران ، وبعد ختام الحرب العالمية الأولى وقيام الدول الجديدة في هذه الممالك الثلاث، أما قبل ذلك أي في العهدين الحميدي والقاجاري فقد كان الهدوء يشمل المناطق الكردية على الغالبز
وأول ثورة كردية أوقعها الأكراد على الترك هي ثورة الشيخ سعيد في ولاية ديار بكر سنة ( ١٣٤٢ هـ ) ، أي بعد ما استقرت الحكومة الكمالية ، فقد نهض لقتالهـا بـاسم الدفاع عن الدين الإسلامي، ولكونها ألغت الخلافة ، وأقصت سلائل الخلفاء عن بلادها ، فوقعت أحداث مريعة جداً ، انتهت بإخماد الثورة والقضاء عليها وتشريـد رجـالهـا ، والفتك بهم وإعدام العشرات من زعمائها ، والذين اشتركوا فيها في ساحة ديار بكر بوقت واحد .
وثار الأكراد بعد ذلك ثورة كبرى ثانية بقيادة اللواء إحسان باشا سنة ( ١٣٥١ هـ ) في جبال وان ، فأرسل الترك قوى عظمة أخمدت الثورة وشردت رجالها ، ولم يخلو الأمر في الغالب بعد ذلك من وقوع اضطرابات موضعية ، يخمدها الترك بدون صعوبة .
أما في العراق فقد حدثت اضطرابات في مناطق السليمانية الكردية سنة ( ۱۳۳۸ هـ ) ، أي عقب استيلاء الإنكليز على العراق ، فقد ثار الأكراد أول ما ثاروا ، لأنهم وعدوا بإنشاء دولة كردية مستقلة في جبال السليمانية ، ثم أخلفوا .
وعاد الأكراد فثاروا في السليمانية مراراً عديدة منذ سنة ١٣٤١ هـ ، وحتى إلى سنتنا هذه بقيادة الشيخ محمود والشيخ مصطفى البارزاني ، وكان الجيش العراقي يخمد الحركات كل مرة .
أما في إيران فقد تولى الزعيم الكردي إسماعيل سمكو خان قيادة الثورة على الحكومة الإيرانية في عهد الشاه رضا بهلوي السابق ، فأرسلت القوى فأخمدتها
وفي الحرب العالمية الثانية لما رجحت كفة الحلفاء ، وأخذ المحور يتراجع ، عادوا إلى التكتل ، وأخذت لجان التحرير تنشط من جديد ، وأرسلت برقيات عديدة إلى الأقطاب الثلاثة ، حينما كانوا مجتمعين في بوتسدام مطالبة بألا ينسى الشعب الكردي حين تقرير مصير الشعوب ، ولما قامت الحكومة السوفياتية في إيران لفصل آذربايجان والمناطق الكردية ومنحها الاستقلال الذاتي ، رأى الكرد الإيرانيون في ذلك بارقة أمل تسطع من الشمال ، فولوا وجههم نحوها ، علهم يستطيعون بموآزرة الحكومة المذكورة من تحقيق أمانيهم ، ولبثوا ينتظرون ، على أن العارفين بدقائق السياسة لم يعتقدوا بفائدة هذا الانتظار ، مازالت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية لا تنظران بارتياح إلى تأليف دولة كردية ، تتاخم بلاد إيران والعراق والشام ، فحدث ما حسبوه ، وأخفقت حركة آذربايجان أيضاً ، وظلت فكرة الدولة الكردية معلقة في باب ( الأماني القومية ) ، لمدة لا يعلمها إلا الله
هذا وبعد أن مزق الترك معاهدة سيفر عقيب الحركة الكمالية ، وأبدلوها بمعاهدة لوزان في سنة ١٣٤٢ هـ ( ۱۹۲۳ م ) تنكروا للأكراد ، وقـاومـوهم واتخذوا أشد التدابير نحوهم ، وخصوصاً بعد حوادث الشيخ سعيد المعروفة ، وسلكوا سـيـاسـة سـداهـا ولحمتهـا تتريك الأكراد ، وتجريدهم من قوميتهم وجعلهم أتراكاً ، بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، فلا يشعرون بالشعور القومي ، ولا يتحسسون به ، فزاد ذلك في نقمة الكرد عليهم وأوجد هذه الهوة السحيقة بين الأمتين ، ومثل هذا الخلاف غير واقع بالنسبة للعراق فالأكراد العراقيون يتمتعون بجميع الحقوق السياسية ، ومنهم الوزراء والأمراء وقواد الجيش ، ومنهم السفراء ، وندر أن تؤلف وزارة عراقية لا يشترك فيها كرديان على الأقل، وغير واقع وغير وارد على البال بتاتاً بالنسبة إلى بلاد الشام . لأن الأكراد الشاميين ( السوريين ) متوزعون بين إخوانهم العرب على ما سوف نبسطه ، وهم والعرب من عناصر البلاد الأصلية ، وسواسية في كل ضراء وسراء ، ويتبادلون كل خلطة ومودة ، ومن ثم لم يجدوا سبباً لأي وثوب أو انشقاق ، ونعتقد جازمين أنهم سيبقون من ذادة الإسلام وحصون العروبة في هذه الديار ، ومن أركان منعتها ونهضتها ، وبعضهم من حملة شعرها وأدبها ، كما كان أسلافهم بنو أيوب وأنصار بني أيوب الأمجاد