الحقيقة عند العقلاء، أن الخالق يوجد الأشياء عند وجود أسبابِها؛ إلا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب، وحينما اكتشف علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الكون يسير وفق قانون الأسباب، طار الفرح بمفكري الملاحدة، وظنوا أنهم وجدوا ما يبحثون عنه في التدليل على عدم وجود خالق، لأن كل الأشياء ناتجة عن أسباب، ولا ضرورة حينئذ إلى القول بوجود إله أو خالق موجد، لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث لأسباب مادية دون تدخل خارجي،
وهذا يُغني عن القول بوجود إله أو خالق، وهو ما يسميه بعض الباحثين (التفسير الميكانيكي للكون)، ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لَم يزعموا أنه بديل عن الله؛
بل صرحوا بأنه عادة الله في الخلق أن تجري الأمور بواسطة أسباب، وأن الله يجُري مشيئته في الكون بواسطة أسباب، ولكن الملاحدة جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم ونظريتهم إلى الدين بعين البغضاء، وأنه بزعمهم ينافي العلم،
وكيف لَم أن يكون هذا الاكتشاف دليلا على عدم وجود إله خالق الذي قدر الأسباب وفق عادته في هذا الكون، وقد أشار الله تعالى إلى هذا في القرآن حينما أُمرت مريم بأن تهز جذع النخلة؛ وهي في حالة الإعياء والتعب في وقت الولادة، ليفهم الناس أن الله يجُري الأمور بأسبابِها.
وقد وجد الفلاسفة الملاحدة صفعة أبطلت نشوتهم بِهذا الاكتشاف الميكانيكي، وذلك حينما عجز العلماء عن الإتيان بتفسير للأسباب الكامنة في بعض القضايا مع وضوح آثارها دون أن يعرفوا وجه العلة والمعلول فيها، فعلى سبيل المثال: فإن الراديوم عنصر مُشعّ واليكترونات فيه تتحول إلى حطام تلقائيا،
وقد أجرى العلماء تجارب لا حصر لَا لكي يصلوا إلى سبب إشعاع الراديوم، ولكن كل التجارب انتهت إلى الفشل، ونحن نجهل حتى اليوم سبب تحطم إلكترون ما وخروجه عن نظامه النووي في الراديوم،
وأيضا نحن نشاهد المغناطيس وهو يشدّ نحوه الحديد، وقد أقام العلماء نظريات كثيرة لشرح هذه الظاهرة ولكن أحدهم كتب يعلق على هذه النظريات قائلاً:
” إننا لا نعرف لماذا يشد المغناطيس الحديد نحوه، ربما لأن الله أصدر إلى المغناطيس أمرا بذلك.”
ولقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون السببية ليس حقيقة مطلقة بالمفهوم الذي افترضوه، بل لقد قرروا أخيرا أن نظام العالَم لا يخضع لَهذا القانون الناتج عن الصدفة المحضة، وإنما هناك قوة خارقة وعقل ذو وعي يدبر شؤون هذا العالَم!
وكان سائداً عند الجهُّال في القرون الأولى أن هناك آلَهة مشتركة في تدبير هذا الكون، وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبرها، ثم تغيرت هذه النظرة إلى ما هو أقبح منها؛ وهو الإلحاد المادي الحديث القائم على الصدفة؛ مما لَم يقل به الملحدون قديماً.