الصوفية، Sufism
التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري کنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري، والجدل الكلامي. وكان لهذه الظاهرة معلمان أساسيان هما: العبادة والزهادة .
فالعبادة أصل في التقرب إلى الله ومناجاته في الخلوات وصولا إلى مرضاته ؛ لأن كثرة النوافل وسيلة للفوز بالحب الإلهي .. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها .. وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه .. .
أما الزهادة فهي الأصل في قمع شهوات النفس، وسبيل تزهيدها فيما بایدی الناس، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا، يقول تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما معنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى )(31 سورة طه) مع الأخذ بسلوك الغربة النفسية لحديث ابن عمر “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل” لما في ذلك من تربية للنفس وتزكيتها.
ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرق مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخي المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة، فخالطها مزيج من مقولات باطلة تسربت إليها بعد الإمام الجنيد تلميذ الحارث المحاسبي، والذي يعد رأس هذه الطائفة، وإن كانت إرهاصات هذا المزيج قد ظهرت بوادرها في شطحات شيخه أبي اليزيد البسطامي، لكنها تنامت حين أعلن “الحلاج” تلميذ الجنيد نظرية الحلول والاتحاد .
وعن اسم الصوفية يقول القشیري: ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس، والظاهر أنه لقب، ومن قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي، وكذلك من الصوف؛ لأنهم لم يختصوا بلبسه.
ثم يوضح ابن خلدون فيقول: والأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف .
إن كلمة الصوفية مأخوذة من كلمة يونانية (صوفيا) ومعناها الحكمة.
وقيل إنه نسبة إلى لبس الصوف – وهذا هو المعنى الأقرب للصحة – لأن لبس الصوف كان علامة على الزهد.
ويقال إن ذلك تشبها بالمسيح عیسی بن مریم عليه السلام.
يقول ابن تيمية: “في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف ، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سیرین ظهر عمرو بن عبید وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن على الهجيمي وبني دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام (ای دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع) وصار لهم من التعبد المحدث طریق تمسكون به، مع تمسكهم يغالب التعبد المشروع، وصار لهم حال من السماع والصوت، وكان أهل المدينة اقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشامیون فكان غالبهم مجاهدین .
وقد تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على ایدی كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحانی، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجودة عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحارى، وترك الزواج.
يقول مالك بن دینار : “لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب . وذلك دون سند من قدرة سابقة أو نص كتاب أو سنة.
وفي الكوفة أخذ معضد بن یزید العجلي هو وقبيله يروضون أنفسهم على هجر النوم وإقامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة ، على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم.
وفي القرنين الثالث والرابع الهجري ظهرت ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:
الطبقة الأولى: تكتل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول – ص – وصحابته بل وعن عباد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوی التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم – مثل الجنيد – بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات،
ومن أشهر رموز هذا التيار: الجنيد: هو أبو القاسم الخراز المتوفی ۲۹۸هـ يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ولذلك يعد من أهم الشخصيات التي يعتمد المتصوفة على أقواله وآرائه وبخاصة في التوحيد والمعرفة والمحبة.
وقد تأثر بآراء ذي النون النوبي، فهذبها، وجمعها ونشرها من بعده تلميذه الشبلي، ولكنه خالف طريقة ذي النون والحلاج والبسطامي في الفناء ، حيث كان يؤثر الصحو على السكر وينكر الشطحات ويؤثر البقاء على الفناء ، فللفناء عنده معنى آخر، وقد أنكر على المتصوفة سقوط التكاليف.
وقد تأثر الجنيد بأستاذه الحارث المحاسبي والذي يعد أول من خلط الكلام بالتصوف. وهناك آخرون تشملهم هذه الطبقة أمثال : أبو سليمان الدارتي عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العني ت 205هـ، وأحمد بن الحواري، والحسن بن منصور بن إبراهيم أبو على الشطري الصوفي وقد روى عنه البخاري في صحيحه، والسري بن المغلس السقطي أبو الحسن ت۲۵۳هـ، سهل بن عبد الله التستری ت۲۷۲هـ، معروف الكرخي أبو محفوظ 413هـ محمد بن الحسن الأزدي السلمي، محمد بن الحسن ابن الفضل بن العباس أبو يعلى البصري الصوفي ۳۶۸هـ شیخ الخطيب البغدادی .
ومن أهم السمات الأخرى لهذه الطبقة : بداية التمييز عن جمهور المسلمين والعلماء، وظهور مصطلحات تدل على ذلك بشكل مهد لظهور الطرق من بعد، مثل قول بعضهم: علمنا، مذهبنا، طريقنا،
قال الجنيد: “علمنا مشتبك مع حديث رسول الله ، وهو انتساب محرم شرعاً حيث يفضي إلى البدعة والمعصية بل وإلى الشرك أيضاً، وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يخرج من ماله، وأن يقل من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.
كما كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان ونساك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين.
ونتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية او نصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي – ص- مما سبب العداء الشديد بينهم وبين الفقهاء، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف والخوارق وبعض المقولات الكلامية.
وفي هذه الفترة ظهرت لهم تصانیف کثيرة في مثل: كتب أبو طالب الملكي قوت القلوب وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي.
وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب .
سئل الإمام أبو زرعة عن هذه الكتب فقيل له: في هذه عبرة؟. قال : من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة.
الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجریدی والكلام النظری، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والمعارف، والأحوال، والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.
ومن أهم أعلام هذه الطبقة : أبو اليزيد البسطامي ت۲6۳هـ، ذو النون المصري ت 245هـ، الحلاج ت۹ ۳۰هـ، أبو سعيد الخزار ۲۸6هـ، الحكيم الترمذي ت : ۳۲هـ، أبو بكر الشبلي ۳۳۶هـ .
الطبقة الثالثة: وفيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظریات الفيض والإشراق على يد الغزالى والسهروردي.
وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف والتي تعدت مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية . ومن أشهر رموز هذه الطبقة : الحلاج ت۹ ۳۰هـ، السهروردي ۵۸۷هـ، ابن عربي ت638 هـ ، ابن الفارض 6۳۲ هـ، ابن سبعين ت 66۷ هـ.
وقد جعلت الصوفية أهم شعائرها زيارة القبور، وبناء الأضرحة، والطواف بها والتبرك بأحجارها والاستغاثة بأصحابها، ولذلك زعموا أن قبر معروف الكرخي هو الترياق المجرب .
وكذلك إقامة المساجد على قبور الصالحين وتقديسها وتعظيمها، رغم ما ورد عن النبي -ص – من التغليظ في النهي عن ذلك، على أنهم لم يقفوا عند حد إقامتها وإنما عظموا المشاهد التي فيها إلى حد الشرك، حيث يطوفون بقبورهم، ويتمسحون بها، ويشدون الرحال إليها.
كما جعل الصوفيون من سموهم الأولياء مبتصرفين في الكون أعلاه وأسفله، ويعلمون الغيب كله، ولذلك اخترعوا دیوانا للأقطاب والأوتاد والأبدال ليدير شئون الكون من خلال قراراته،
يقول أحمد بن مبارك السلجماوس المغربي في وصف الديوان الباطني الصوفي: سمعت الشيخ (هو عبد العزيز الدباغ الذي يدعي علم الأولين والآخرين رضي الله عنه ) يقول: الديوان يكون بغار حراء الذي كان يتحنث فيه الرسول – ص- قبل البعثة.
قال رضي الله عنه : فيجلس الغوث خارج الغار، ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى، وأربعة أقطاب عن يمينه، وهم مالكية على مذهب مالك بن أنس – رضي الله عنه – وثلاثة أقطاب عن يساره، واحد من كل مذهب من المذاهب الأخرى، والوكيل أمامه ، ويسمى قاضي الديوان، وهو في هذا الوقت مالكي أيضاً من بني خالد القباطني بناحية البصرة واسمه سيدي أحمد بن عبد الكريم البصراوي، ومن الوكيل يتكلم الغوث، ولذلك يسمى وكيلاً ؛ لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان . والتصرف للأقطاب السبعة على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة تحته عدد مخصوص ينصرفون تحته، والصفوف السنة من وراء الوكيل، وتكون دائرتها من القطب الرابع الذي على اليسار من الأقطاب الثلاثة، فالأقطاب السبعة هم أطراف الدائرة، وهذا هو الصف الأول وخالطه الصف الثاني على صفته وعلى دائرته، هكذا الصف الثالث.
ثم زعم أن النبي – ص – يحضر الديوان : فإذا حضر جلس في موضع الغوث، وجلس الغوث في موضع الوكيل، ثم ادعى أن ساعة انعقاد الديوان في الساعة التي ولد فيها النبي -ص- لأنها ساعة استجابة .
ومثلها مثل بقية الفرق تفرقت الصوفية إلى فرق أخرى كثيرة، وغالباً ما تسمى الطريقة باسم مؤسسها، وأحيانا تسمي باسم خاص (كالختمية) مثلا، و(الزوامة) نسبة إلى الزم؛ لأن ذكرهم بالزوم، وهي كلمة عامية مصرية معناها إخراج صوت معروف من الأنف والفم مغلق.
نذكر منها على سبيل المثال :
الطريقة الختمية : طريقة صوفية، تلتقي مع الطرق الصوفية الأخرى في كثير من المعتقدات ، مثل : الغلو في شخص الرسول ، وادعاء لقياه وأخذ تعاليمهم وأورادهم وأذكارهم التي تميزوا بها، عنه مباشرة. هذا إلى جانب ارتباط الطريقة بالفكر والمعتقد الشيعي وأخذهم من أدب الشيعة وجدالهم، ومحاولة المعاصرين منهم ربط الطائفة بالحركة الشيعية المعاصرة.
الطريقة التيجانية: فرقة صوفية يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، ويزيدون عليها الاعتقاد بإمكانية مقابلة النبي – – مقابلة مادية واللقاء به لقاء حسيا في هذه الدنيا، وأن النبي – ي – قد خصهم بصلاة (الفاتح لما أغلق) التي تحتل لديهم مكانة عظيمة .
الطريقة الرفاعية: تنسب إلى أبي العباس أحمد بن سلطان على الرفاعي، ويصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
الطريقة الشاذلية : طريقة صوفية تنسب إلى أبي الحسن الشاذلي”، يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، وإن كانت تختلف عنها في سلوك المريد وطريقة تربيته بالإضافة إلى اشتهارهم بالذكر المفرد الله أو مضمرا هو.
الطريقة الفاسية: تنسب إلى أسرة ” الفاسي نسبة إلى ‘فاس’ بالمغرب، وتنسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.. واستوطنت هذه الأسرة مكة، وكان أفرادها يتبعون الطريقة الشاذلية وينتسبون إليه، حتى أوجد أحدهم الطريقة الفاسية المنتسبة كذلك إلى الشاذلية، فيسمون أنفسهم بالشاذلية الفاسية .
الطريقة الميلوية : أنشأها الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي، المتوفي سنة (6۷۲هـ)، أصحابها يتميزون بإدخال الرقص والإيقاعات في حلقات الذكر، وقد انتشروا في تركيا وغرب آسيا، ولم يبق لهم في الأيام الحاضرة إلا بعض التكايا في تركيا وحلب ودمشق، وفي بعض أقطار المشرق.