أ- اليهود الربانيون
وهم أكبر طوائف اليهود عدداً، وهم الذين بقوا في دمشق، بعدما تلاشى السامرة واختفى اليهود القراؤون.
ويقال للواحد منهم ربي، ويعرفون بالناموسيين والربانيم والكتبة ويدعى الواحد منهم بالحبر أو الربي.
وكانوا يقيمون في حي اليهود في الزاوية الجنوبية الشرقية لدمشق، داخل السور.
أما عددهم فمن الصعب تحديده، ولكن بحسب تعداد السكان الذي جرى في دمشق في عهد إبراهيم باشا بن محمد علي سنة ١٢٥٦ هـ نجد أن:
– عدد المسلمين الذكور كان ٢٢١٧٤ رجلاً
– وعدد ذكور النصارى كافة ٣٠٤٦ رجلاً
– وعدد ذكور اليهود ١١٣٢ رجلاً
وهذا يعني أن عدد اليهود الربانيين كان في أواسط القرن التاسع عشر في دمشق نحواً من ٢٥٠٠ يهودي، وذلك كما ورد في رسالة لشريف باشا ( حاكم دمشق إلى سيده محمد علي باشا في مصر).
وذكر الدكتور يوسف نعيسه أن عددهم في تلك الفترة كان نحواً من ٤٦٣٠ يهودياً ويهودية. وجميعهم من اليهود الربانيين، لأن الآخرين – كما هو آت – كانوا قد انقرضوا مع بداية الحكم المصري لدمشق.
أما عن يهود الشام اليوم. فقد ذكر رئيس الطائفة اليهودية بدمشق: ( خضر شحادة كباريتي معلومات عن اليهود في سورية وعن معابدهم فقال):
– إن عدد اليهود ال سوريين حالياً سنة ٢٠٠٤ م حوالي ٥٠٠٠ يهودي ويهودية يعيشون بين وطنهم سوريا وبين المهجر، ومن هم في دمشق يمارسون طقوسهم الدينية بحرية تامة وقال إن جميع معابد اليهود ومساكنهم ومقار أعمالهم قائمة بحمد الله، لم تتعرض إلى أي إزعاج أو اعتداء.
ثم قال إن عدد الكنائس في سورية ١٤ كنيساً هي:
– كنيسان في حلب
– وكنيس واحد في القامشلي
– و ١١ كنيساً في دمشق، وأجملها وأقدمها كنيس الخضر في جوبر.
وعلى الرغم من إقامتهم في حارة اليهود، فإنهم لم يكونوا معزولين عن مجتمع دمشق، وسوف نرى من خلال الوثائق مدى اندماجهم مع السكان الآخرين، ومدى التفاهم الذي كان سائداً بين جميع السكان في الوقت الذي كان يهود أوربا يعاملون معاملة غاية في السوء، مما لا مجال للحديث عنه الآن، لأنه معروف ومتواتر.
ومن أراد معرفة حال هؤلاء اليهود في دمشق، قبل دخول القناصل إليها، فعليه بما كتبه الشيخ عبد القادر المغربي في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق، فقد كانوا سادة المال، والمسيطرين على خزانة دمشق وشؤون الصرافة والتجارة فيها.
وعلى الرغم من سيطرتهم تلك فإنهم لم يكونوا يتطاولون على الحكام، بل كانوا يحاولون إرضاءهم بكل ممكن حفظاً على تلك الامتيازات.
وعندما دخلت الجيوش المصرية دمشق سنة ١٨٣٢ م كان محمد علي وولده إبراهيم باشا شديدي العطف على اليهود الأمر الذي أدى إلى حصول انقلاب كامل في وضع اليهود في دمشق حتى أصبحوا في نهاية ذلك الحكم أي سنة ١٨٤٠ م ملوك دمشق غير المتوجين والمدعومين بقوى أوربية وأمريكية جبارة تنصرهم ظالمين ومظلومين…..
وكان من مظاهر هذا التغيير والذي امتد حتى سقوط الدولة العثمانية:
– تعيين بعض اليهود في مراكز إدارية في ديوان دمشق، بل إن هناك وثيقة تتحدث عن ” صوباشي القابون ” الذي كان يهودياً…..
– تعديل بعض الألقاب التي كانت تطلق على اليهود، وإطلاق ألقاب جديدة مثل الموساوي، والخواجة الأفندي وصاحب العزة، كما هو آت.
– قيام ” حاخام باشى” دمشق لليهود بوظيفة التعريف باليهود وكفالتهم عند القاضي، وتأكيد ” ولائهم ” للدولة العلية…..
– طلب اليهود من الحكام، ولا سيما في عهد إبراهيم باشا، ترميم بعض معابدهم أو شراء بعض القصور الكبرى واستخدامها لصالح اليهود، أو تحويلها إلى كنائس لهم في دمشق والقدس والخليل وبغداد وصفد وغيرها.
– إقدام اليهود على شراء الأراضي والعقارات في كل مكان، والمطالبة بإعفائهم من الضرائب، وزيادة صلاحية رؤسائهم وحاخاماتهم.
– والمهم أن اليهود في دمشق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي أوائل القرن العشرين خرجوا من “القمقم” وظهر من أمورهم ما كان خافياً، وساهم القناصل والمتعاطفون مع اليهود، وما أكثرهم، ساهموا في ذلك حتى ظهر هؤلاء على صورتهم الحقيقية ولله في خلقه شؤون.
وسنقدم فيما يلي، مشاهد قصيرة من أحوال اليهود في القرن التاسع عشر كما ذكرها المؤرخون، ووصفها الشعراء، والشعر خير شاهد على العصر.
يقول الشيخ عبد القادر المغربي في محاضرة ألقاها في بهو المجمع العلمي ( العربي في دمشق مساء الجمعة ٩ تشرين الثاني ١٩٢٣ م – ١٣٤٣ هـ)
كان لصيارفة اليهود منذ مائة عام عز وصولة حتى إن الناس كانوا يتناشدون ما قاله الشاعر فيهم:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
المال فيهم، والجاه عندهم ومنهم المستشار والملك
يا أهل ذا العصر قد نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك
وقد اشتكى أهل الشام إلى السلطان محمود من الظلم الذي لحق بهم على يد اليهود فأمر بعزلهم من ديوان السرايا.
وقد احتار والي الشام، ولي الدين باشا سنة ١٨٢٥ م- ١٢٤٤ هـ ماذا يفعل بهم، فإن عزلهم كما أمر السلطان، تعطلت مصالح الدولة في ولاية دمشق، لأن الصيارفة كانوا يكتبون دفاتر الحسابات بالقلم العبري، ثم أصبحت تلك الدفاتر وكأنها مكتوبة بالقلم “القلفطيري” (هو خط اليهود الذي يكتبون به التعاويذ والرقي بآيات من التوراة ثم أطلق هذا الاسم على كل ما كان من قبيل الطلاسم والرموز من الكتابات)
ليس هذا فحسب، بل إن اليهود أنفسهم كانوا يهددون الوالي نفسه بالعزل إن لم يرضخ إلى مطالبهم. لأن خزينة الشام كلها كانت بأيديهم، فإن سكت عنهم، سكتوا عنه وإلا عزلوه.
وكانت تدير خزينة الشام أسرة “فارحي” وكان أكبر صيارفة الخزينة روفائيل شحادة وأخوه سلمون.
وقد اهتدى والي الشام المذكور: ولي الدين باشا إلى طريقة يخّلص بها الشام من شرور اليهود، فالتمس من السلطان عزل روفائيل فارحي المذكور فهرب هذا إلى بغداد، وعين الوالي مكانه رجلاً مسيحياً من حمص يقال له اسكندر الكاتب الذي تمكن من إدارة الحسابات بكفاءة عالية، فقامت قيامة اليهود واستطاعوا عزل الوالي، وتعيين ” صالح باشا ” مكانه، وعاد روفائيل من بغداد بعد أن دفع إلى “أصحاب القرار” في استانبول ١،٧٥ مليون غرشاً تعادل ( ١٧٥٠٠ ) ليرة ذهبية، ورجعت حليمة إلى عادتها القديمة.
وبعد عزل الوالي عزل الصراف اسكندر المذكور، ثم شِعر بأ ن حياته معرضة للخطر أيضاً من قبل اليهود ، فأعلن إسلامه وس مى نفسه “محمد أفندي هدايت” فقال الشيخ محمد أمين الجندي في ذلك مادحاً الوالي صالح باشا لحسن سياسته:
كذاك إسلام ذي رشدٍ على يده حرٍ عفيفٍ له فكر ومعقولُ
ملقب ب “هدايت” وحيث سمي “محمداً” وله في ذلك تفضيل
الله أكبر ذا أمر قد انشرحت منه الصدور وذا باع له طول
على أن اليهود لم يستسلموا بسهولة لما حلّ بهم من تراجع دورهم في ديوان دمشق والخزينة.
ذلك أن كبيرهم ” شمعايا أفندي ” بنى له قصراً مشهوراً في د مر على قارعة الطريق، وكلما جاء دمشق أحد الولاة يقوم صيارفة اليهود بدعوته للإقامة في هذا القصر بقدر ما يريد، ويتفانون في خدمته وتلبية طلباته أياً كانت فتتوطد الألفة والمصلحة المشتركة بين الفريقين، وما يزال قصر شمعايا حتى اليوم في دمر خير شاهدٍ على وضع اليهود الممتاز في دمشق في القرن الماضي.
وعلاوة على ذلك كان اليهود يعملون في قنصليات الدول الغربية في دمشق ويحصلون على حمايتها لهم، ويتمتعون بالحصانة “الدبلوماسية” التي كانوا يتطاولون بها على أهل البلد المساكين الذي لم تكن تقبلهم القنصليات لديها ولو على سبيل الخدم.
وكان لليهود كنيس قديم مشهور في قرية جوبر، ولا يزال وكان يقيم اليهود حوله بكثافة، حتى إن الر حالة كانوا يظنون أن قرية جوبر بكاملها وكان يهود دمشق يقومون كل يوم سبت بزيارة هذا الكنيس، ويبقون فيه حتى المساء.
وهذا الكنيس قائم اليوم في محطة موقف المدارس في جوبر، يزوره من يعنيهم أمره، من أهل البلد والضيوف الأجانب.
ب- اليهود القراؤون
هم الطائفة الثانية في دمشق من حيث العدد،ويبدو أنهم كانوا في القرن العاشر والحادي عشر والثاني عشر الهجري يضاهون الربانيين، بل ربما كانوا أكثر عدداً منهم، كما نرى في الوثائق التاريخية ثم تراجع أمرهم، فهاجروا حتى لم يبق من آثارهم في دمشق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلا مقبرتهم عند باب كيسان.
وكان لهم وقف مشهور في منطقة الإحدى عشرية خارج باب شرقي، كما كان لهم كنيس كبير في حي الزيتون حيث كانوا يقيمون، إلى الشرق من حي اليهود.
ومع أن الجميع من الموساويين فإن اليهود القرائين امتازوا عن الربانيين بأمور كثيرة، أهمها:
– تقديس يوم السبت، وعدم القيام بأي عمل فيه.
– الإيمان بالتوراة وحدها، وعدم الإيمان بالتلمود وغيره من كتب الأحبار
– وهم يكّفرون الربانيين، وهؤلاء بدورهم يكّفرونهم.
– ويعود تاريخ ظهور نحلتهم إلى عهد الخليفة أبي جعفر المنصور
– وكانت بغداد هي مركزهم الأساسي
– ثم انتقل إلى القدس
– ويقال إنهم الذين اتخذوا النجمة السداسية شعاراً لهم.
– وعددهم في دمشق كان مختلفاً بحسب العصور، أما عددهم – اليوم في أنحاء العالم فهو بحدود ١٢٠٠٠- ١٥٠٠٠ يهودي ويهودية.
– يقيم معظمهم في شبه جزيرة القرم، ويتوزع الآخرون في استانبول وبولندا وكردستان ومصر، ولا أثر لهم اليوم في دمشق حيث إن آخر وثيقة تحدثت عنهم كانت سنة ١٢٢٤ هـ، وبقيت مقبرتهم خارج باب كيسان قائمة حتى أوائل السبعينات من القرن الماضي، ثم تلاشت معالمها. وآخر مرة ذكرت فيها في الوثائق التاريخية كانت يوم ٢٠ شوال ١٢٩٦ هـ.
د – وأما عن يهود السامرة:
فقد كانوا يعيشون في نواحي جوبر الشمالية حول جسر تورا، عند عقدة القابون اليوم، وقد انقرضوا من دمشق، ومن المصادفات الطريفة، أننا عثرنا على وثيقة واحدة مف صلة عن هؤلاء اليهود، وعن إقامتهم في بيت الآلهة أو بيت لهيا، ويعود تاريخها إلى ذي القعدة ٩٩٢ هـ.
وعليه يمكن القول إنهم انقرضوا من دمشق بعد ذلك التاريخ والله أعلم بهم.
نقلاً عن كتاب سهود الشام في العصر العثماني