الصليب ( الصلبة )
الصليب بضم الضاد وفتح اللام أناس من أهل البادية ، بل هم أعرق أهل البادية في البداوة والقشافة ، وهم وإن شابهوا البدو بالشكل واللون والزي ، إلا أنهم يختلفون بضعة نسبهم وحطة قدرهم ، وازدراء البدو بهم ، وعيشهم في العزلة والذلة والمسكنة ، والحاجة إلى الشفقة ، ومن ثم كانوا مسالمين للجميع ، ويعطف عليهم الجميع ، وهم لا يباعلون أي لا يزوجون أحداً ، ولا يتزوجون من أحد ، ولا يخالطون الغير ولا يقربهم الغير بضر أو أذى ، فلا يغزون ولا يُغزون ، ومن أكبر العار عند البدو أن يسطوا أحدهم على صليبي : ويسلبه شيئاً ، ولا يتولى كبر هذا الإثم إلا بعض فرق شمر نجد ، وبعض الغياث النازلين في حرة الصفا المشهورين بشرهم .
والصلبة لا يؤلفون عشيرة بل مجموعة متحدة من فرق عديدة ، منتشرة في بوادي الجزيرة العربية كلها ، ينتقلون من مكان إلى مكان ، ويكاد لا يخلو منهم . مكان ، من أقصى جنوبي نجد إلى سواحل الكويت والبحرين ، إلى ضفاف الفرات والدجلة ، وجبل سنجار في العراق ، إلى قرى المناظر في الشام وأعني القريتين وتدمر والسخنة ، وندر أن يتجاوزوا هذه القرى شمالاً أو غرباً ،
وهم قلما يقربون ويسابلون الحضر ، وقلما يعرفهم أو يراهم سكان المدن والقرى المتطرفة لدينا ، لأن الصلبة يقيمون زرافات صغيرة ١٥ – ٢٥ بيتاً في أماكن قصية مختلفة الحماد من ، لا يبلغها غيرهم من البدو ، فهم يبقون في الحماد طول السنة صيفاً وشتاءً ، ويحسنون التجوال فيه ، والعثور على ما يقيتون به أنفسهم وماشيتهم رغم قفره وجدبه وجفافه في الصيف ، وخلوه إذ ذاك من أشظف البدو عيشاً ، وفي بعض السنين ولاسيما في فصل الربيع ، يصادف السائر قرب قرى المناظر التي عددناها أو في منطقة الوديان جمعاً من الصلبة مزدحماً إلى حد ما، وهذا الجمع فرصة لأعيادهم وأعراسهم ورقصهم ، وفي بعض السنين وحينما تنفجر الآبار في ( القعرة ) التي داخل الحدود العراقية وشمالي محطة الرطبة ، يقوم الصلبة بزراعات ضئيلة من البطيخ وبعض الخضر الصيفية .
ولقد ذكر العارفون بهم أن ( حليس ) أول رئيس عرف للصلبة منذ مئة سنة . وخلفه سليمان بن مالك ، أو ( مالج ) كما يلفظون وقد سجن في دير الزور ومات فيها ودفن ، وبعده اليتيمة ( تصغير يتيمة ) ، ورئيسهم الحالي عبيد بن معيذف وفي اللغة تعذف الطعام أكله ؛ فمعيذف الذي يأكل.
وعيشة الصلبة بسيطة جداً ، ولهم عادات غريبة ، ويتعاطون أموراً تعد في نظر العرب البدو خسيسة ، منها أنهم يرتزقون بصيد الغزلان والأرانب والطيور ويقتاتون منها ، يبيعون الحمير والملح من أهل المدن ، والأدوية النباتية التي يستحضرونها ، وكذا القلي الذي يستحضرونه من حرق الشنان والعضو والعجوة ، والملح من أنحاء ممالح ( البوارة ) في الجزيرة ، ويداوون مرضى البدو، ويقومون بأنواع الكي على النحو الذي ذكرناه في بحث صحة البدو ، والناس يركنون إليهم في أكثر الأحيان مع وجود أطباء رسميين ، ويعتقدون أن مبناها التجارب ، والصلبة إذا لم يجدوا شيئـاً مـدوا أيديهم واستعطوا .
ومن عاداتهم ، أنهم يرقصون مع النساء في مخيماتهم وحفلاتهم على النحو الذي سنذكره نقلاً عن كتاب الرئيس رينو الفرنسي ، ورقصهم بسيط ، لا ترى فيه حركات تخل بالآداب ، أو إمارات تبعث إلى سوء الظن ، فهو عبارة عن وثب وطفر ، وعندهم نوع من الرقص ، يأخذ به بعضهم بيد بعض ويدورون ، وقد يرقصون أمام البدو ، ويجـزل المتفرجون لهم العطاء ، وبعض نسائهم بارعات في الجمال والظرف وقرض الشعر المصطلح عليه في البادية، والشعر والإنشاد من جملة موارد العيش عند الصلبة ،
وشعرائهم يدورون بين العشائر ، ويؤانسون مجالس الشيوخ بما ينظمونه وينشدونه من القصائد والأغاني الحماسية أو الغرامية أو المديح، ولهم مع الإنشاد براعة في ضرب الرباب ، وترخيها مع معاني القصيدة أو الأغنية خفضاً ،ورفعاً ، فكأنك في ساحة الوغى إذا وصفوا الطعن والضرب ، أو في مسرح الحب إذا ذكروا لقاء المحبين ومناجاتهم ، وحينئذ تترنح أعطاف المستمعين ، ويغمرهم الحماس والطرب أو العجب أي غمر ، ويخشى الشيوخ لسـان هـؤلاء الشعراء والقصاد من أن يهجوهم بين العشائر إذا ما أساؤوا إليهم ، أو قصروا في عطائهم .
ويذكر عن الفروق البارزة بين الصلبة وغيرهم من أعراب البادية ، أنهم وسيطو القامات في الغالب ، قنيو الأنوف رفيعوها ، وذوو شعر أسود أو كستناوي غامق ، وعيون سود حادة النظر وبصاصة ، أما قول البعض بأنهم : شقر الوجوه وزرق العيون فلا صحة له ، كما أكد لي مشعل باشا الفارس الجربا ، وإذا صدف وجوده وهو ما يندر جداً لا يكون مختصاً بهم وحدهم ، بل قد يعثر عليه عند غيرهم من البدو أيضاً ، ومن الفروق أيضاً أن الصلبي غير كسول كالبدوي ، بل هو نشيط ومتحرك ، ومشيته سهلة لينة ، بخلاف مشية البدوي الموزونة الثقيلة ، وفي صوته ارتخاء ونعومة ، بينما أصوات البدو خشنة داوية ، وأسارير الصلبي منفرجة بشوشة إلى حد ما ، بينما أسارير البدو مقطبة : وعند الصلبي صراحة وسذاجة غير موجودين لدى البدو .
وهم أعرف أهل البادية ، وأهدى من القطا بالمراعي والمناهل ومواقع الأمطار ، وأحذقهم بسلك القفار والمفاوز ، حتى أن البدو أنفسهم يتخذونهم أدلاء في جولاتهم وغزواتهم البعيدة ، فهم لا يتيهون قط، وتراهم في دجى الليل وفي كثافة الضباب ووهج السراب وتدفق المطر يستطيعون أن يرشدوا قافلة إلى بئر بعيد ۷ – ۸ ساعات على الراجل دون أي تردد أو خطأ ، وفي رواية أن أحد الأدلاء من هؤلاء الصلبة أصيب بالعمى ، فظل على عمله يعرف الأرض من روائحها ، فهم بهذا يخدمون البدو .
حتى الغزاة إذا مروا بهم يرون منهم حفاوة وسهولة وهداية ، والبدو يقدرون لهم هذه الخدمة ، فلا يمسونهم قط، ولا يقصرون في الإشفاق والإحسان إليهم ، ثم هم وإن كانوا مبعثرين في طول البادية وعرضها ، و منفردين، لا يزالوا حافظين لبعضهم صلات قوية جداً، يستطلعون سير العشائر ، ومواقع نجعتها ، والطرق التي يسلكها الغزاة ووجهاتها ، فلا يفوتهم أي خبر أو حادث في البادية ، ومن هذا كانوا عمال استخبارات ( جواسيس ) من الطراز الأول ، بيد أنهم قليلو الثرثرة لخوفهم من الأذى إذا أفشوا ما يعلمونه ،
ومن خواص ما عرفوا بـه أيضـا جـودة النظر وبعد البصر وصحة الأجسام ، مهما شاخوا أو كبروا ، وذلك لكثرة سيرهم في النهار ورياضة أجسامهم ، وقلة خلطهم في المآكل، وسكناهم الأرض العـذيـة ، ومما اشتهر به الصليب خاصة نحافة الجسم حتى ضرب. المثل ( أنحف من الصليبي ) .
ولغتهم ليست بالعربية الفصحى ، ولا بعربية البادية بل هي لغة بين الاثنين ، ولهم رطانة يتكلمون بها خاصة .
وكثير منهم يلبس جلد الغزال ، ويتخذون لهم منه القفاز والمسماة ( وهو شيء کالجورب يغطي به أسفل الساق وظاهر القدم، لكي لا تجرح الأرجل بالشوك ، أو بما أشبه )
ولباس الرجل لا يمتاز عن لباس المرأة إلا بشيء واحد ، وهو أن المرأة تتعصب بعصابة حمراء بلون الحناء ، وتدلى طرفيها على القفا كأنهما تتوا المتاج ، أما الرجل فيجعل هذه العصابة الحمراء ملفوفة على نفسها ، ليس لها طرف نائس متذبذب ،
وللرجل جدائل شعر كما للمرأة ، والغالب في الرجل خفة شعر العارضين ، وبهذا فقلما يتميز الرجل عن المرأة من بعيد ، وبالأخص إذا كان شاباً لم يبقل وجهه بعد ، ولهم منطقة يتخذونها من جلد الحمل أو نحوه ، فيدهن أو يدبغ بالقرظ ، ويجدل على ثلاث قوى جدلاً عريضاً ، ويعلق بها هنات من العظام، يثقبونها لهذه الغاية وتلبس المنطقة بهذه الهيئة ، ويسمونها السبتة.
وإذ كان الصلبة في حصانة تامة وأصدقاء كل البادية أصبحوا في غنى عن اقتناء الخيل والسلاح ، وهم وإن استعملوا السلاح فللصيد فقط ، والأسلحة المعروفة عندهم هي ( المضاعة ) وهو عبارة عن عصا جعل في رأسها قطعة من الحديد ، وعندهم بنادق قديمة من نوع ( الششخانة ) وهي متوسطة بين القربينة والبارودة الاعتيادية ، وطويلة السبطانة جداً ، وداخلها ست طرائق أو زوايا ، ومنها اسمها بالفارسية ومعنى شش ستة وخانة بيت ، ويقال إن دخول هذه البندقية كان في أيام السردار عمر باشا الذي أخضع دير الزور في حدود سنة ١٢٨١ هـ .
وعندهم القرطة هذه كلها من حديد ، ووجهها محفور أو منقوش بأشكال غريبة ، يؤتى بها من الحساء أو القطيف في سواحل الخليج العربي ، واليوم صاروا يتخذون البنادق كغيرهم من البدو .
وهم إن اتخذوا الإبل فقليل جداً ، ولكن عندهم الحمير البيض ، والصناعة التي يمتازون بها هي : تربية هذه الحمير وبيعها ، وهي مرغوبة جداً لحسنها وقوتها وتمكنها من السير المتواصل بدون أن تتعب ، وهي تعدو عدو الظليم ، وعندهم منها قطعان تسرح طليقة كالغنم في رعاية حمار كبير منها ، وربما بلغ ثمن الحمار الأصيل خمس عشرة ليرة ذهبية وأكثر ، والأصيل يدعى شهاري ، والكديش يدعى خكر والصلبة يربون أيضاً الماشية بأنواعها .
وللصلبة مهارة عجيبة في صيد الغزال ، لأن أساس قوتهم لحم الغزال ، وهم حذاق في التحيل على صيده ، يكمنون له ساعات طوالاً في حفر يحتفرونها عند موارد الظباء ، حيث لا ظل يستترون به من الهجير المحرق أيام القيظ ، أو يطاردونه حتى إذا أعيا ووقف ، كالمتفكر الغائب عن رشده أطلقوا النار وهجموا عليه ، ويطاردونه تارة ركضاً ، وتارة على الحمار الأبيض فإذا قربوا منه كلموا حمارهم همساً ، فيفهم الإشارة ويبرك كالبعير ، ثم يطلقون النار من وراء الزاملة متخذيها بمنزلة القترة فيصطادونه.
ومن طعامهم بعد لحم الغزال والأرنب والطيور الشعير والذرة بأنواعها واللبن : وشرابهم الماء القراح وإن لم يحصلوا عليه في مثل فصل الخريف ، أو في أرض الحماد بعد جفاف الخبرات ، شربوا اللبن أو الحليب بدلاً منه.
وقيل إنهم يكرهون كل الكراهة : الكذب والسرقة والغش والخداع والمكر والمداجــاة ، والغبن في البيع والتجارة ، وهم يؤدون ديونهم بدون تأخير ، ومن طبعهم الكدية وهم مشهورون بها ، فإنك لا تزال تراهم يتطفلون على موائد الغير من أي ملة أو نحلة كانوا ، وبدون أن يدعوا إلى الطعام، وهم لا يستنكفون من أي نوع من الطعام ولا يحرمون شيئاً منه ، وإذا سمعوا بإحضار طعام في محل ، تراكضوا إليه متسارعين كأنهم من أهل ذاك المحل.
والمرأة عندهم على جانب عظيم من الحياء والجبن ، وهي إذا شخصت مع زوجها إلى المدينة تمسكت بأهداب ثوبه أينما سار وسرى ، كأنها الطفلة الصغيرة بجانب أبيها ، وهم لا يستقرون في مكان ، يرتادون الكلأ البعيد عن ممر الطريق أو ملاجئ العشائر ، فلا يزاحمون أحداً .
ومن الغريب ، أن لا يذكرهم أحد من علماء التاريخ والأنساب العرب القدماء الذين لم يغادروا قبيلة ولا عشيرة إلا وأحصوها وفرعوها ، ولا حادثة إلا وسجلوها ، بينما غفلوا هم ومؤلفـو كتب الأدب والقصص عن هؤلاء الصلبة بالمرة أو تناسوا وجودهم أو جهلوه ، وهذا ما جعل الآراء تضطرب في معرفة ن. بهم ومنشأهم ،
فذهب بعض الكتاب المتأخرين ، وتابعهم على ذلك عدد من قصيري الفكر والنظر عندنا إلى أن هؤلاء الصلبة غیر عرب في الماضي ، وغير مسلمين في الحاضر ، وأنهم من بقايا ( الإفرنج الصليبيين ) ، وقد استندوا في ذهابهم هذا ، على الفروق التي بيناها بينهم وبين البدو ، وعلى أن بعض هؤلاء الصلبة إذا سئل يجيب – تقية أو تزلفاً إلى عمال الانتداب في العراق والشام ـ بأنهم من بقايا الصليبيين ، بعد ، أن بلغتهم هذه الدعوى عنهم فأرادوا أن يستغلوها ، وهو استناد خاطيء ، وجهل بالتاريخ ، وابتعاد عن علم طبائع البشر أردت بهذا المقال أن أفنــده تخليصاً لهؤلاء المساكين مما عزي إليهم .
فالصليبيون لم يتركوا منهم في بلادنا أي أثر ، حاربهم الملوك الأيوبيون والسلاطين المماليك ، وما زالوا يلاحقونهم ، ويقذفونهم في البحر حتى كان إخراجهم من نصيب السلطان الملك الأشرف خليل بن قلاوون في سنة ٦٨٩ هـ ، فقد دفعهم وقتئذ من مدن الساحل الشامي كله ، ولم يبق منهما أحد ، فلا يعقل بعد جهد وكفاح قرنين كاملين أن ينجو جمع كبير ، بل عشيرة وفيرة تعد بالألوف كهؤلاء الصلبة ، فيفلتون وينطلقون في بوادي الجزيرة العربية ، دون أن يعلم بأمرهم أرباب الدولة الإسلامية في ذلك الحين فيبقون أجيالاً يسرحون ويمرحون إلى يومنا هذا ، ولو فرضنا المحال ولبس قسم من الصليبيين طواقي الإخفاء وتواروا عن أنظار مسلمي ذلك العهد أخصامهم ومقتفي آثارهم ، وراحوا رجالاً ونساءً وأطفالاً عديدين يطلبون مفراً وملاذاً ، لأووا إلى المدن والقرى والجبال والأودية التي توافق أجسامهم وأمزجتهم الإفرنجية ، وما اعتادوه من الجو البارد أو المعتدل ، والرغد والرفه ، ولما تغللوا في أقفر الفلوات وأحر الصحراوات ، وأشقى المعايش والحالات ، التي يعجز عنها أجلد البدو وأتعسهم .
فهؤلاء الصلبة أعراب أقحاح ، وبدو خلص كسائر الأعراب والبدو ، وإن كان أصلهم غامضاً ، وكان في بعض ملامحهم وعاداتهم وخصالهم العرقية اختلاف واضح ، وهذا الاختلاف يعود إلى انعزالهم عن بقية عشائر البادية منذ أجيال عريقة في القدم ، وإلى أنهم لا يخالطون أحداً إلا في الأقل ، وإلى أن نسبهم الأصلي ، أو منشأهم غير معروفين ، أهمل السؤال عنها أدباء العربية ونسابوها القدماء ، أو أنه نسي ، أو كتم لأمر سياسي ، أو حروبي لحقهم ، فضلوا في مجاهيل الزمن والظنون ، ولهم أمثال في الضعة وازدراء العشائر ، وفي رداءة العيش وغرابة المظاهر والأطوار ، ( كباهلة ( التي كانت في عصر الجاهلية ، يأنفون من الانتساب إليها ، ومثل الهتيم والشرارات والعوازم أحقر البدو والأمم في عهدنا في شمالي الحجاز، ومثل أعراب اللياثنة في وادي موسى ( البتراء ) في جنوبي بلاد الأردن ، سكان الكهوف والغيران ، على مثال إنسان عصور ما قبل التاريخ وغيرهم .
ورأينا هذا قد ارتاه أيضاً مشعل باشا الفارس الجرباء ، والأستاذ عباس العزاوي فقد جاء في كتابه ( عشائر العراق ) أن أصلهم بدو قد قضت عليهم الحروب في أبعــد الأزمان ، فانقرضوا وبقوا متفرقين ، فهم بقاياهم المنتشرة ، وهم أنفسهم يعتقدون أنهم (صبة ، صليبة ) أي من العريقين في النسب ، ولكنهم نسوا أصلهم ، أو أخفوه لأمر سياسي ، أو حربي لحقهم ، وكتموا نسبهم حتى عن أولادهم فبقي مجهولاً ، ولا علاقة لهم بالصليبيين ولا باليونان ولا بالرومان ، فهم منقطعون عن الأمم الأخرى ، ولا نجد في لغتهم ما يؤيد فكرة الصليبيين ، والاستدلال بأنهم ليسوا من العرب باستنطاق ملامحهم وبعض خصائصهم البدنية ، ونحافة جسمهم . مما لا يدعمه برهان ، في حين أنني رأيت نظمهم بدوية لا تفترق عن عوائد البدو من شمر وعنزة وسائر عشائر الشامية ، ومن عوائدهم المخالفة ما يعين أنها ناشئة من عدم اتصالهم بالعشائر الأخرى ، إلا معاشرة طفيفة وموقتة ، ومثل هؤلاء ما ينقل عن سكان جبل عكا الذين لا يختلطون بقوم ، كما نقل العرب عنهم في بداية تدوين اللغة.
وأما ما يقال من أن العرب يعتبرونهم غير عرب فهذا غير صحيح ، وإنما يقولون أنهم ليس لهم نسب معروف ، أما ديانتهم فلا يسع المرء إنكار أنهم مسلمون ، وهم وإن لم يقوموا بالوجائب الدينية تماماً ، فهذا غالب في أكثر البدو مما عدا أتباع ابن سعود .
ونخوتهم ( أولاد صليبي أو أولاد غانم ) إلا أنهم يعدون من ( آل ) فهم ينزعون إلى القحطانية أو ما ماثلها ، وهي على كل حال تعتبر من القبائل المتحيرة التي نسي ماضيها ، ولا تزال قبائل قد جهلت ماضيها ، فلا تحفظ أنها قحطانية أو عدنانية ، على أن هذا لا يخرجها عن عروبتها ، إلخ اهـ.
قلت وإذا أثبت علم السلالات البشرية ( الانتروبولوجيا ) بعد فحص الجماجم والدماء أنهم ليسو من الأعراب ، وأنه ينبغي أن يكون أصلهم ومنشأهم من خارج الجزيرة العربية نتجه حينئذ ، وبعد ثبوت الفحص فقط إلى أنهم قد يكونوا أتوا من الهند ، لأن في الهند أقاليم حارة كحرارة الجزيرة العربية ، وشظف عيش كشظف هذه الجزيرة ، يقاسيها الملايين من الهنود ، ولا سيما طبقة المنبوذين منهم ، فقد يكونوا من منبوذي الهند أو من الزط الذين أصلهم من الهند ، وجاؤوا في عهد المأمون العباسي وظهر وقتئذ منهم عيث وفساد في طريق البصرة ، فعوقبوا وأبعدوا ، أو من النور الذين أصلهم في رأي أكثر المحققين من الهند ، وجاؤوا إلى الجزيرة العربية على حين غفلة من أهلها وسكانها ، وانتشروا في أبعد البوادي ،وأشقاها ، وتلمسوا اللجوء والحياة في الغموض والكتمان ستراً لأصلهم الزري ، وفي خساسة النفس والعيش التي هي من شيهم الأولية ،
ومهما يكن فالصلبة شرقيون آسيويون ساميون ، وليسوا صليبيين أوروبيين آريين ، وعرب مسلمون إسلامهم كإسلام سائر البدو ، وقد خدع أحد المبشرين الإنكليز فيما قيل عن نسبتهم إلى الصليبيين ، وعن ضعف إسلامهم ، فجاءهم في سنة ١٩٢٥ – ١٩٢٦ م وحاول أن ينصرهم على المذهب البروتستانتي ، فلم يفلح وذهبت أمواله ومتاعبه أدراج الرياح .
وفي عهد العثمانيين كان الصليب معفيين من كل ضريبة ، وظلوا على ذلك في عهد الفرنسيين إلى سنة ١٩٣٢ م التي فرضت فيها عليهم ضريبة الأغنـام أسوة بغيرهم من العشائر ، ثم هم لضعفهم وعجزهم عن مدافعة أصغر قوة تهاجمهم من بقية العشائر ، أكرهوا على تأدية الخوة إلى كثير من هذه العشائر ، فهم يؤدونها إلى بعض شيوخ العمارات والفدعان والروالة والأشاجعة والولد علي والعمور الجراح وحتى الغياث والمساعيد .
وهم بحكم توزعهم وتشتتهم يذعنون لسلطة كثير من الشيوخ ، وأشهر شيوخهم سلمان بن مالك وعابد النوري في العراق وعبيد بن معيذف في الشام ( سورية ) .
أما فرقهم فكثيرة ، وكل منها مستقل عن الآخر ، وأسماء المعروفة منها هي : المالك والهزيم والمسيلم والجميل والطرفة والصبيحات والضبية واليتيم والعراقية والماجد والغبان والنباق والعناترة والحازم ، على أن أكثر هذه الفرق وأفخاذها مشتتون في العراق ونجد وسواحل خليج البصرة ، ولا يوجد في بادية الشام ( داخل الحدود السورية ) إلا نحو ١٢٠ بيتاً ، يؤلفون فرقة الحازم التي يرأسها الشيخ عبيد بن معيذف بن عواد الزعف ، والشيخ عبيد شاب في العقد الثالث ، له الآن ثلاثة أولاد ، وكان أبوه معيذف غنياً جداً ، وذا كرامة وسمعة بالغتين ، وكان يلقب بتل اللحم ، كناية عن جوده وبذله في قرى الضيوف ، والشيخ عبيد وإن لم يبلغ شأو أبيه ، لكنه لا يزال موضع احترام الجميع .
والصليب الذين يجوبون البراري الشامية ، يقيظون في المنطقة المحصورة شرقاً بوادي الصواب وبير جب ، وجنوباً بطراق العلب ، وغرباً بخط العليانية – سخنـه ، شمالاً بجبل البشري.
وأكثر بيوت الصليب وخاصة بيوت الشيخ عبيد تخيم في وادي المياه قرب بير ورقة –وبير وريق ، بينما غيرها وخاصة بيوت اليتيم تصعد حتى وادي الهيل ووادي السلاهيب وبير الحجل ، ويوجد من الصليب فرقة منفردة عن غيرها تضرب دائماً في الجزيرة شرقي تل أبيض وعددها نحو عشرين بيتاً ، والصليب يمتارون الحنطة والشعير من دير الزور والبوكمال والميادين ، ويشترون حاجات اللباس وأمثالها من تجار حمص وحماة ودمشق ، الذين يصلون إلى بيوتهم في الربيع، ويبتاعون منهم السمن والصوف .
أما في الشتاء فإنهم يتوغلون داخل البراري العراقية وقرب الحدود ، ويخيمون غالباً في منطقة مغرة الديب وعقلة الصواب ، ويبقون دائماً حول الخط الممتد من أبي كمال إلى خبرة الزرقاء التي في غربي جبل التنف ، وهم ما أن يروا الأمطار الموسمية حتى يغادروا منطقة بير الحجل ووادي الهيل ووادي السلاهيب ، ويتجهون نحو وادي المياه . وكلما توغلوا نحو بير ورقة وبير وريق ، يتجمع بعضهم على بعض إلى أن يبلغوا كثرتهم في مشاتيهم في أنحاء عقلة الصواب
ويقدر أن لديهم ١٥٠ بعيراً و ٢٥٠٠ شاة و ۱۲۰ من الحمير البيض المرغوبة كما قدمنا ، وليس لهم أي ملك أو عقار .
زار الكابيتن رينو الفرنسي هؤلاء الصليب في حدود سنة ١٩٢١ م فاحتفوا به وغنوا أمامه وطربوا ورقصوا ، فوصف هذه الزيارة في كتابه ( البدو في مقاطعة دمشق ) وصفاً جميلاً ، آثرنا تعريبه إتماماً لهذا الموضوع ، قال :
((في مساء جميل من شهر حزيران بلغنا موقع ( أبي الفوارس ) غربي تدمر ، وطفلت الشمس مؤذنة بالغياب، وتوارى نصفها وراء الجبل ، ولم يبق منه سوى بعض الأشعة الممتدة نحو السهل المستنير ببقايا تلك الأشعة ، وشرع النسيم العليل وقتئذ يهب ، ويداعب أطناب بيوت الشعر ، وبدأ أمام أعيننا المبتهجة مشهد رائع .
في ذلك المساء برزت الطبيعة أمامنا بأجمل زينتها ، وأزاحت السماء نقابها الأزرق اللطيف ، فأظهرت لنا نجوماً كأنها حبات الحسن والجمال المنثور في الفضاء اللانهائي ، وكانت الشمس الغاربة قد جعلت من رمل السهل الممتد أمامنا غباراً ذهبياً ، وصارت الجبال المحدقة بذلك السهل تتضاءل وتتلون بألوان زرقاء أو خضراء أو سمراء .
وكان وقتئذ موعد رجوع الماشية إلى حظائرها ومعاطنها ، فكنا نسمع ثغاء الغنم ونهيق الحمير البيض ورغاء الإبل وعواء الكلاب وصياح الرعاة الصغار ، كل ذلك كان يؤلف حولنا مجموعة ألحان ساذجة ، جعلت عواطفنا تتحمس بمباهج حياة الرعاة .
وأشرفنا على طائفة من بيوت الشعر الواطئة ذات الألوان المجزعة ما بين أسود وأبيض وأسمر ، ورأينا فيها أناساً من البدو كانوا يتحركون ويلغطون بلا هوادة ، وقد تميزنا البيت الخاص برئيسهم الشيخ معيذف من لونه الأسود وعدد أعمدته ، وكان السواد الأعظم من هؤلاء البدو رجالهم ونساؤهم وأولادهم قد اجتمعوا وازدحموا على بعد بضع خطوات أمام بيت الشيخ معيذف، وتلقونا بالتصفيق والترحيب والزغردة التي اعتادوا أن يفعلوها لكل قادم ، لولا أن هذه كان يضفي عليها الآن ابتهاج وحماس لم نعهد لها مثيل من قبل .
وبينما النساء عند كل البدو الذين نزورهم – إن لم يهربن منـا ـ يبتعدن عنا دائماً ، وجدنا نساء الصليب على غير المعهود من أمثالهن ، فقد لقين تعباً في شق طريق لنا بين الصفوف المتراصة العميقة ، وكان النساء في هذه الصفوف في جملة من وقفوا يمتعون النواظر برؤيتنا ، وبعد شرب القهوة أسعدنا الحظ بحضور حفلة راقصة غنائية رائعة ، سوف يبقى ذكرها الجميل محفوظاً مدة مديدة .
شاهدنا بادئ ذي بدء وعلى حين غرة ، أن هذا الجمع شرع يهوج ويموج ويدور ، وارتفعت خيزرانة لم يعرف مصدرها ، وصارت تعلو وتهوي وتضرب بلطف ، وتفرق الجمع المحتشد ، وتفتح حلقة عريضة في وسطه ، وبرزت جوقة موسيقية لطيفة ، وإن كانت من الطراز العتيق ، وشرعت تنشد وتغني ، وتألف صف من الفتيات والفتيان اللابسين لبـاسـاً واحداً من القماش الأحمر والأزرق واتجه نحونا ، وشرع أحدهم يغني بصوت جمع الخشونة واللطافة معاً ، ثم لحقه المغنون وعدد من الفتيات الجميلات اللواتي كن يرددن الغناء مع الفتيان ، وازدادت الأصوات ارتفاعاً واهتزازاً ، ونتابع معها تصفيق ألوف الأيدي على الإيقاع والإسراع ، وكان يرافق ذلك خشخشة داوية للأساور الفضية والنحاسية ، وبلغ الزف المنشود حده ، وسار سيراً موزوناً ومتسقاً ولم يعد يتبدل ، ثم اشتدت الأهازيج والأصوات الناعمة الصادرة من الأفواه التي كانت قبل هنيهة طرية مستحبة ، واشتد معها تصفيق الأيدي كلها على وتيرة واحدة ، وازداد اهتزاز الأجساد المرنة الكاملة التكوين وصارت تتموج بأناقة وحسن ، وما زالوا حتى بلغ اللحن والإيقاع أقصى حدهما .
وجاءت فتاتان من أجمل فتيات الحي، لابستان ثوبين من القماش الأزرق ، ولحقها اثنان من الفتيان ، ودخلوا وسط الحلقة المبتهجة ، وكان شعر الفتيات متدلياً إلى تحت أردافهن ، ومفروقاً ومضفراً على شكل عقائص ناعمة متموجة ، وقد صبغته بقليل من الحناء فاشقر ، وصار يشبه لون النحاس الأحمر .
وكانت حركات الفتيان بالإيماء وتمثيل الانحناء لتقبيل الوجنات أشد وأبلغ مما كانت تفعله الفتيات من هز الرؤوس والأكتاف والسواعد والأفخاذ ، وهذا كان كافياً لحملقة عيون المتفرجين ، والتهامها هذه المطاعم الشهية . فقد كانت عقاص الشعر الكستناوي تتابع حركات الرأس ، وكان الرأس أكثر الأعضاء حركة ، تارة يرتفع إلى فوق ، وتارة ينحني نحو اليمين أو نحو اليسار ، أو ينطوي لذاته حسب هزج الرقص الصادر من أفواه نساء الحي دون انقطاع .
وفي أثناء الهياج والدوران حاول أحد الفتيان أن يختلس قبلة من الفتاة التي كانت تراقصه ، فنفرت منه برشاقة وخطت بضع خطوات سريعة وابتعدت ، وأعاد الفتى محاولته عدة مرات كان يخفق فيها ، وما زال يحاول حتى فاز ببغيته واغتصب القبلة المنشودة ، وحينئذ انسحبت الراقصة فخلفتها واحدة من رفيقاتها ، وهذه أيضاً كانت مثل الأولى بارعة في الملاحة والأناقة والإغراء .
ودامت الحفلة ، ودام استمتاعنا واستئناسنا بمناظرها ، ولم ننتبه إلا حينما جاء مضيفنا الشيخ معيذف في ظلمة الليل الفاحم ، يدعونا للعشاء ويقودنا إلى مائدة عظيمة ، كان الخروف المطبوخ يعلو فيها جبلاً من الرز )) ، انتهى