تاريخ عشيرة العقيدات الحديث في دير الزور

تاريخ عشيرة العقيدات الحديث فس دير الزور

بعد أن استقرت العقيدات في وادي الفرات ، ودحرت منه عشائره القديمة، كالجبور والدليم والجحيش، وتبسطت صارت عنصر فتن وقلاقل في هذه الديار ، التي كانت مهملة في عهود الانحطاط الأخيرة للدولة العثمانية ، فقد كانت حوادث النهب والسلب ، وشن الغارات لا تنقطع ، وطريق القوافل من حلب إلى بغداد غير آمن ، إلى أن كان عهد السلطان عبد العزيز فمر المشير عمر باشا الخرواتي في طريقه إلى بغداد ، وضرب دير الزور، وجاء بعده ثريا باشا ملك زاده والي حلب في سنة ۱۲۸۱ هـ على رأس قوة كبيرة ، فدخل دير الزور، وأخضع العقيدات وغيرهم من عشائر الفرات : وحملهم على التحضر والحرث والزرع ، وأنشأ قضاء في دير الزور وعهد به إلى قائمقام اسمه عمر باشا أبي منقور ، لنقرة كانت في أنفه ، ثم جعل أخلافه دير الزور في سنة ١٢٩٧ هـ مركز لواء مستقل ، مرتبط بعاصمة السلطنة ، يضم محافظتي الفرات والجزيرة الحاليتين وناحية تدمر وقسم من لواء الموصل .

إلا أن العقيدات لم يتوبوا إلا بعد حملات مكررة من سرايا الجند البغالة ، أخصها في زمن أرسلان باشا الذي قدمنا ذكره مراراً ، وفي زمن المتصرفين الذين خلفوه ، ولا سيما المتصرف أحمد رشيد باشا ( ۱۳۱۹ هـ ) ، وقد نكبوا من حملات الجند هذه ، ومن غارات عازة وشمر وطيء وجيس ودليم، ومن غارات بعضهم على بعض ، وخاصة من المجاعات والأمراض السارية التي فتكت فيهم ، في سني الحرب العظمى الماضية حينما كانوا يتصلون بقوافل الأرمن المبعدين إلى ضفاف الفرات والدجلة ، ويلبسون ثياب موتاهم الهالكين بتلك الأمراض وأخصها التيفوس ، وربما لبس بعض رجالهم ثياب الميتات من النساء ، ومشى بها لجهلهم التمييز بينها وبين ثياب الرجال أو للحاجة ، وقد أدركت ذلك لما كنت بين ظهرانيهم بمهمة مكافحة الجراد في سنة ١٣٣٥ هـ ( ۱۹۱٦ م ) ، إلا أنهم ما أن انسحب الترك في سنة ۱۳۳۷ ( ۱۹۱۸ م ) حتى ثاروا على الإنكليز الذين كانوا وصلوا من العراق إلى هذه الأنحاء . وجرت معارك عديدة في الصالحية ووادي علي وتل مدقوق في شتاء سنة ۱۹۱۹ م وربيعها ، دارت الدائرة فيها على الإنكليز وقتل منهم مئات ، رغم طائراتهم وسياراتهم المدرعة ، وقد أسقط العقيدات يومئذ عدداً من هذه الطائرات ، واستولوا على عدد من تلك السيارات ، وذبحوا ركابها ، كما نهبوا بلدة أبي كمال ، فانسحب الإنكليز إلى وراء الحد الذي نصبوه في نقطة القائم، وتركوا البلاد لأهلها وللحكومة الفيصلية . وكان قائد العقيدات يومئذ في الوثوب على الإنكليز رمضان الشلاش ، وهو من بيت الرئاسة في فرقة الأبي سرايا ، ومن الضباط العثمانيين القدماء ، وخريج مدرسة العشائر في الأستانة ، وقد كان وقتئذ حاكاً عسكرياً في قضاء الرقة ، جمع جيشاً من عشيرته الأبي سرايا السباقة إلى الوثوب والحروب، ومن عشائر العفادلة والولدة والسبخة وقسم من عنزة ، وعارك الإنكليز الذين جاؤوا من الفرات وتجاوزوا وادي حوران ، الذي هو في رأيه الحد الطبيعي بين الشام والعراق، فقام يطردهم إلى وراء ذلك الحد .

وجاء الفرنسيون في أواخر سنة ۱۳۳۹ هـ ( ۱۹۲۰ م ) عقيب احتلالهم دمشق وحلب ، وزحفوا نحو وادي الفرات لإخضاعه، وكانوا في قيادة الرئيس ترانكا يرافقه ويناصره الأمير مجحم بن مهيد شيخ الفدعان ومعه عشائره ، فقاومتهم عشيرة الأبي سرايا وخربت الجسور في طريقهم ، إلى أن بلغوا دير الزور واحتلوها في تشرين الأول سنة

۱۹۲۰ م ، لكن العشائر لم يرق لها ذلك ، وشرعت تناولهم ونهب الأبـو سـرايــا قــافـلــة عسكرية قادمة من حلب ، وهاجمت فرقنا الأبي حليحل والأبي عمرو من فرق الأبي خابور سرية الفرنسية في جنوب الدير، وفتكتابها ، ولما قصفتهم الطائرات ، قاموا وهاجموا مطار الدير ، وأحرقوا سبع طائرات، فخرج الزعيم دبيوفر من حلب ، بحملة كبيرة في تشرين الثاني ١٣٤٠ هـ ( ۱۹٢١ م ) وبلغ دير الزور دون أن يلاقي عقبة في سبيله ، لأن العشائر التي في طريقه استسلمت وتوسلت بالصفح عما بدا منها ، وأعادت الأسلاب والغنائم ، ورضخت لما فرض عليها من الضرائب ( قالته مجلة المشرق في عددي آب وأيلول ۱۹۳۱ م )

وشاءت وقتئذ حكومة دير الزور المحلية أن تستعين بهذه الحملة ، وتجبي الضرائب المتراكمة على العشائر ، وشاء الفرنسيون انتهاز هذه الفرصة لبسط رهبتهم ، فقام دبيوفر بجيشه ومدافعه وهاجم في ضفة الفرات اليسرى قرية خشام وأهلها شرذمة من العنابزة من البكير الأشداء، وكان هؤلاء لما شعروا بالجيش أبعدوا عيالهم وحلالهم إلى الشامية ، وغيرها واستعدوا للبراز ، واستبسلوا وفتكوا بالمهاجمين ، وكان أحدهم حينما ينفذ عتاده ، يلقي نفسه في الفرات ويذهب سباحة إلى ضفة الشامية وينجو ، ثم زحف دبيوفر إلى البصيرة عند مصب الخابور ، فدافعت العشائر ولا سيما فرقة البكير دفاعا باسلاً ، إلى أن سقطت البصيرة تحت ضغظ المدافع ، وقصف الطائرات، وتفوق القوى النظامية الزاحفة ، وتبعتها الصور التي كان فيها جنود من الترك ، وقد مني جيش دبيوفر في هذه المعارك بخسائر جسيمة ، اعترف بها الكتاب الذهبي لجيش الشرق فقال :

 لأن المهاجمين من الفرنسيين انطلقوا في أرض منكشفة ، تصفعها نيران عدو كثير العدد ( نحو ٣٠٠٠ ) متمنع في استحكامات حصينة ، ومدرب على الرماية ، ويحسنها إلى حد أقصى . أ هـ .

 بينما ذكر لي أحد مرافقي هذه الحملة من موظفي مالية دير الزور ، أن عدد أفراد العشائر المدافعة في هذه المعارك لم يبلغ عشر العدد المذكور، وأن استحكاماتهم لم تكن أكثر من حفر الكرود ومجاري السواقي ، وأن العنابزة المذكورين كانوا المبرزين في هذا الدفاع ، وأن دبيوفر لما دخل البصيرة أباحها ونهبها نهباً فظيعاً ، وجهبي موظفوا المالية وقتئذ نحو . ١٦٠٠٠ ليرة ذهبية ، وهذا فوق ما خسرته العشائر من الأموال والأرواح ، وفي الكتاب الذهبي المذكور أيضاً أنه كان يناصر الجيش الفرنسي في هذه المعارك أبناء إبراهيم باشا الملي ، وأن الأعمال الحربية استمرت إلى أواسط تشرين الثاني ، وأخلى الجيش بعدها بلدة الميادين ، وقصفت بعـدهـا المدافع فرق الشعيطات ، التي حاولت عرقلة عبور الجيش من الفرات إلى الصالحية، ودارت المراسلات مع رؤساء بقية العشائر المتقدمين للخضوع ، إلى أن انتهى الأمر وساد السلام في المنطقة كلها . لكن العقيدات لم يخضع كلهم بالمرة ، فقد كان بعضهم يتمنع أحياناً عن دفع الضرائب الأميرية ، فتذهب الحملات وتضربهم ، كما جرى مع فرقة الشعيطات في قضاء أبي كمال ، ثم كانت تفد إليهم سرايا الغزاة من العمارات على الأبي خابور ، ومن شمر علي الأبي كامل ويدافعونها بشدة ، وضرب بعض الأبي سرايا في سنة ١٩٢٥ م سيارة تحمل ضبـاطــاً فرنسيين ، في موقع عين أبي جمعة ، وقتلوهم وألقوهم في جب، فأعدم الفرنسيون القتلة : وعذبوا ونفوا من ظنوا أنهم شركاء لهم ، وقصفت الطائرات بيوت الأبي سرايا ، وتكرر هذا الوثوب في سنتي ١٩٢٥ و ۱۹٣٦ م خلال الثورة الشامية الكبرى ، وفي سنة ١٩٣٠م في مركز قضاء أبي كمال ، وتكرر من جراء ذلك قصف الطائرات ودفع الغرامات ، وقتل الأبرياء مع المذنبين إلى أن تعب العقيدات، وخضعوا خضوعاً تاماً من ذلك الحين ، وأخرجوا من صنف العشائر الرحل ، وسجلوا في قيود النفوس، وأدخلوا في صنف الحضر، وأتبعوا في جرائمهم إلى المحاكم النظامية ، فانصرفوا من ثم إلى الحراثة والزراعة ، ونصبت في قراهم محركات ومضخات عديدة ترفع ماء الفرات الغزير، وتحيي تلك السهول الخصبة في ضفتيه ، فانقلبوا بحكم العمل والإنتاج عاملاً اقتصادياً هاماً في منطقة الفرات ، لاسيما وهم كثير و الولادة والنسل ، شديدو النماء .

وفي حادثة العدوان الفرنسي الأخير ( أيار ١٩٤٥ ) ، الذي انتهى بجلائهم ، كان للعقيدات كافة ، ولقسم الأبي جمال منهم خاصة أعمال مشكورة .

أما وقائع العقيدات وحروبها مع العشائر فهي كثيرة ومستمرة ، وأخصها مع شمر الجزيرة وعازة ابن هدال ( العمارات ) ، كما لها وقائع كثيرة مع عشائر الدليم وطيء وقيس ، ومع بعضها البعض، ومع الجبور الذين تواقعوا معهم في ربيع سنتنا هذه ( ١٩٤٧ م ) ، من جراء الخلاف على المراعي فقتل وجرح عدد من الفريقين ، ولولا مداخلة المصفحات والطيارات السورية لتفاقم الخطب ، وكان العقيدات فيما مضى يدفعون الخوة إلى عنزة وشمر ، قيل أن أول من رتب عليهم الخوة هو ابن حريميس شيخ فرقة العجاجرة من ( الفدعان الولد ) ، ودام مفعولها إلى أن قام ابن هذال شيخ العمارات وقتل الشيخ علي النجرس رئيس فرقة الثلث من العقيدات في موقع وركة ،

وعلى أثر هذا الحادث هاجت العقيدات، وشرعت تغير على البدو كلهم وخاصة على العمارات ، ومنعت الخوة عن الجميع ، وأنزلت القاصية أي الشدة عليهم، وذلك بتجهيز الرجال والحنشل والغزاة ، ودام الحال على هذا المنوال إلى أن قطع الفرنسيون دابر هذه الفتن ، وقد قيل أن المشرف الدندل شيخ فرقة الحسون اليد الطولى في رفع شأن العقيدات في معاركهم المذكورة ، وأشد أعداء العقيدات هم شمر الجزيرة، فبينها خلافات مستمرة على المراعي والمناهل ، ولطالما جرت بينهما غارات ( ذكرناها في بحث شمر ) قتل في إحداها أخو الشيخ عجيل الياور في غزوة كان يقودها على العقيدات داخل حدود بلاد الشام، واسترد العقيدات ما كان أخذه من عنهم ، كما استردوا في وقعة سابقة غنم الشيخ بنان الهفل التي سلبتها شمر ، ولم ينجل الموقف بين الفريقين بعد ، بشأن هذه الخلافات المتكررة، رغم جهود السلطتين في الموصل ودير الزور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top