هذه العشيرة من أكبر عشائر الأكراد وأغربها تكويناً وتأليفاً ، كانوا في عهد العثمانيين يرتادون البقاع الجبلية ، وسط بلاد الأكراد ، بين سيورك وبيرجك وديار بكر وویران شهر وأورفة ، ويقطنون في سفوح جبل قره جة طاغ من كانون الثاني إلى نيسان ، فإذا حل شهر نيسان هبطوا السهل المحيط بغربي رأس العين ، وامتدوا حتى جبل عبد العزيز ، وإذا حل شهر حزيران عادوا نحو الشمال في اتجاه ديار بكر ، وفي الخريف يذهبون رويداً نحو مشاتيهم في قره جة طاغ ، وهكذا.
وهم كثر يقدرون بـ ٤٠٠٠ بيت ، ومن عناصر ومذاهب مختلفة غريبة ، يعجب الناظر كيف تألفت وعاشت ، ومن وفرة هذه العناصر واختلاف منابتها ، كانوا يقولون عن هذه العشيرة من قبل المبالغة ( هزار ملت ( أي ) ألف ملة ) ، ومن ثم دعيت بالملي ومعظم هذه العشيرة كردي وبعضها يزيدي، وقليل منها عربي الأصل ، وربما بلغ عدد فرقها نحو ٥٠ وأهم الفرق الكردية منها : الباشات ( أبناء إبراهيم باشا وهم الرؤساء ) : ومحليان وكومنقشان وتركمان وحيـدران وهيزول وصوركان ومتينان وجوفان وشيخان ودودكان ومندان و ناصريان وكوران و خضركان وسيدان و دومليان وحسنان و جبران وزركي وجمال الدين ، وأهم الفرق اليزيدية : شرقيان وخالدان ودنادا ومروان وقوبان ،
وأهم الفرق العربية : العدوان والفراجة والجبور والبقارة والحديديين وبني خطيب والنعيم وشرابين الكواويس وغيرهم ، وهذه الأسماء تدل على أن بعض هذه الفرق العربية الملتحقة بالملي منفصلة أمهاتها الكبيرة ، ويقال أيضاً : أن من هؤلاء الملية الأكراد أناس عن متوطنون في مدن دمشق وحماه والرقة .
ومجيء هؤلاء الملية للأرباع في سهول الجزيرة كان يؤدي إلى اصطدامهم بعشائرهـا الكبيرة ، وأخصها شمر وعنزة ، وإلى دوام العداوة والحروب، وفي عهد رئيسهم إبراهيم باشا جرت بينهم وبين شمر معركتان ، كانت الغلبة فيهما لإبراهيم باشا مما أدى إلى علو شهرتـه وقتئذ على ما سنذكره ، ولكن بعد وفاة الباشا المذكور، واحتلال الفرنسيين ، وتقسيم المناطق بين العشائر ، وتوطيد الأمن خفت العداوة المذكورة بالتدريج إلى أن زالت بتاتاً ، وانقلبت إلى صداقة ومصاهرة قويتين، بزواج الشيخ ميزر عبد المحسن رئيس شمر الزور بابنة خليل بك بن إبراهيم باشا ، وحاربت الملية عنزة الجزيرة أيضاً ، ونعني بها عشيرة الفدعان ، وكانت الوقائع بينهما سجالاً ، وهاجموا مرة شاشان رأس العين ، كما أن أبناء إبراهيم باشا مشوا في سنة ۱۹۲۱ م مع الحملة الفرنسية التي كان يقودها الزعيم دبيوفر في هجومها على قرى خشام والبصيرة وضربها عشيرتي العنابزة والبكير من العقيدات ، كما ذكرناه في بحث العقيدات ، وقد انقسمت عشيرة الملية بعد تحديد الحدود إلى قسمين ، فبعضهم داخل الحدود التركية في رئاسة عبد الرحمن بك الذي نفاه الترك إلى أدرنة ، وبعضهم داخل الحدود الشامية في رئاسة محمود بك ، وكان رئيس هذه العشيرة في عهد السلطان عبد الحميد إبراهيم باشا المذكور، ونسبه إبراهيم بن محمود بن تيمور بن عبدي بن محمود بن عبدي الملقب بكلش ، والرواية مختلفة بين أن يكون أصل هؤلاء عربياً أم كردياً ، والغالب أنه كردي ، ولو أن نزعتهم عربية .
وكان كلش عبدي يقيم في جوار بلدة قبا حيدر من ولاية أورفه ، ثم سكن أحفاده بعده في بلدة ويران شهر المعروفة بالسويداء ، وحكموا العشائر الكردية في ديار بكر ووان وبتليس ، وبرز منهم رجال أشهرهم تيمور باشا وأيوب باشا ومحمود آغا والد إبراهيم باشا ، وقد طغا أحدهم تيمور باشا في عهده، ولما عجزت عنه ولاة الأطراف بعثت الـدولـة علـيـه كتيبة عسكرية من فرسان عشيرة العبيد ، في قيادة رئيسها سليمان بك آل شاوي المعروفين في العراق ، فكسرته بعد معركة حامية وخفضت من غلوائه ، وكان ذلك فيما قيل سنة ۱۲۰۲ هـ ، أما إبراهيم باشا فقد كان كأجداده ذا سلطة طائلة على عشيرته ، ونفوذ بعيد المدى على جميع العشائر الكردية في تلك الولايات ، وهو بعد أن حارب جنود الدولة العثمانية ، وانتصر عليها مراراً ، وكاد يعلن استقلاله كأمير على بلاد الكرد كلها ، خضع على أثر إنعامات السلطان عبد الحميد الوافرة ، وتعيينه قائداً كبيراً للكتائب الحميدية التي ألفها السلطان المذكور وقتئذ من فرسان عشيرة الملية وغيرها على مثال فرسان القوازق في روسية، وبعد موته خلفه ابنه محمود بك ، وكان يقطن محمود بك في قصره الذي شيده في ویران شهر ، وبعد أن انتقل إلى قضاء رأس العين ، ظل يتبدى مع عشيرته في مضربه العظيم ذي العواميد الستة عشر إلى أن شاخ وهرم وتوفي في صيف سنة ١٩٤٥ م .
وقد أعقب إبراهيم باشا ستة أولاد ؛ أكبرهم عبد الحميد ثم محمود وإسماعيل وخليل وتيور وعبد الرحمن ، فعبد الحميد توفي في ديار بكر ، وإسماعيل توفي في رأس العين ، وتيمور بك قتل ، وعبد الرحمن رئيس العشيرة الباقية داخل الحدود التركية أبعـدتـه الحكومة الكمالية إلى أدرنة ، فظل فيها سنين إلى أن فر وجاء إلى رأس العين ، ولما توفي محمود بك استقرت الرئاسة إلى خليل بك ، إلا أن خليل بك قد شغل عن العشيرة بالنيابة في البرلمان السوري ، فصار يعاونه في إدارة العشيرة الباقية في قضاء رأس العين ابنه محمد علي بك ، وهو شاب ذكي همام ، متعلم يجيد اللغة الفرنسية كإجادته التركية فضلاً عن العربية .
ترجم المقدم مولر في كتابه حياة إبراهيم باشا فقال :
« إبراهيم باشا أحد الشخصيات التي برزت في العالم العربي في أواخر القرن الماضي، كان يرأس عشيرة كردية عربية نصف متحضرة ، وقد لعب دوراً كبيراً ، وألف الترك من عشيرته جنداً دعوه ( الميليس ) ، وقضى إبراهيم باشا عمراً مترعاً برغد العيش والاستقلال في قرى عديدة تحيط بعاصمته ويران شهر ( السويداء ) ، وكان مضربه الذي ينصبه في الشتاء وأثناء النجعة ، أكبر مضرب عرف من نوعه ، فقد كان له ستة عشر عموداً بينما ليس لأكبر رئيس بدوي مضرب تزيد أ أعمدته التسعة ، وقد توفي إبراهيم باشا في الصفية على نهر الجغجغ على بعد ١٢ كيلو متراً شمالي ، وسبب وفاته أنه كان فاراً من وجه الجند التركي الذين عقبوه بشدة مدة مديدة ، فوصل إلى مشرع في نهر الجغجغ ، وكان الحر شديداً والتعب واللهث آخذان منه أشد مأخذ ، فشرب دون حساب ، فأصابته هيضة قضت عليه .
وحينما كان الفرنسيون يحاولون الاستيلاء على أورفه وديار بكر وثب أبناؤه على الترك ، وأرسلوا وفوداً إلى الفرنسيين يعلمونهم بقصدهم ، وأنهم يرومون الثأر من الترك وطلبوا أن ينصرونهم ، لكن الفرنسيين لم يصغوا إليهم ، وبعد أن اشتبك أبناء إبراهيم باشا مع الترك ، وغلبوا وغلبوا مراراً اضطروا إلى الاستسلام ، ثم فضلوا الهجرة فجاؤوا مع ٣٠٠ – ٤٠٠ بيت إلى أنحاء دير الزور في سنة ۱۹۲۱ م ، وهناك أمدهم الفرنسيون بمدفعين وبضعة رشاشات ، فعادوا وهاجموا الحامية التركية في رأس العين ، كما غاروا على الشاشان في قرية الصفح ، ولكنهم دفعوا بشدة فرجعوا بعدها إلى الدير ،
وفي اتفاقية أنقرة تم التراضي على أن يعفى عنهم ، فعادوا في سنة ۱۹۲۲ م ، إلى ويران شهر . لكن الترك لا يصفحون عن الزلات بسهولة ، لذلك ظلت حالتهم قلقة ، وقد سجن الترك أبناء الباشا مراراً وأطلقوهم مراراً ، وأخيراً سئموا واضطروا في سنة ١٩٢٦ – ۱۹۲۷ م إلى أن يتركوا أوطانهم وقراهم وأرزاقهم وقسماً من مواشيهم في يد الترك ، وجاؤوا إلى بلاد الشام ، ومكثوا قرب قرية رأس العين ، وطلبوا من الحكومة السورية أن تقبلهم ، وتقطعهم أرضاً يستغلونها ، ولسوء الحظ لم يوجد لهم سوى أراض في جنوبي حمص ، فاستبعدوها وفضلوا البقاء قرب وطنهم الذي غادروه ، وظلت قضيتهم معلقة في يد القدر، وهم لا يزالون مع بضع مئات من البيوت، يضربون في جنوبي غربي رأس العين » . أ هـ .
وترجم الشيخ كامل الغزي في كتابه ( نهر الذهب في تاريخ حلب ) حياة إبراهيم باشا المذكور فقال في المجلد ۳ ص ٤٨١ ما خلاصته (( في شهر رمضان سنة ١٣٢٦ هـ مات إبراهيم باشا بن معمو التمو الكردي، في الموضع المعروف بتل شرابه بين نصيبين ودير الزور ، وهو من عشيرة الملية الكردية ، وهذه العشيرة تبلغ زهاء أربعمئة بيت ، : ، تقيم تحت خيام الشعر في جهات ويران شهر ، من أعمال قضاء رأس العين التابعة لواء الزور ، والرجل المذكور هو شيخها ورئيسها ، وكان والده توفي في حلب في حدود سنة ١٢٩٥ هـ ودفن فيها ، فخلفه ابنه هذا في المشيخة ، وكان يعرف إذ ذاك بإبراهيم آغا ، وبعد أن صار شيخ العشيرة ، اقتفى آثار آبائه في شن الغارة على العشائر الكردية والعربية ، خصوصاً في عشيرة قره كج فإنه لم يبق لها سبداً ولا لبداً ، ولما كثر تشكي هذه العشائر منه أمسكته حكومة ولاية ديار بكر ، ونفته إلى سوارك فبقي فيها سنتين ، وفيها استغاث بوالي حلب جميل باشا ، وقدم له هدايا من الخيول المطهمة ، فشفع له عند السلطان عبد الحميد وعاد إلى ويران شهر ، ولما تألفت الكتائب الحميدية من سكان البوادي ، مضاهاة لكتائب القوزاق في دولة روسية ، جعل إبراهيم آغا مقدم مئة ، ثم مقدم ألف ، ثم أمير لواء وصار يدعى باشا ، وكثرت أتباعه ، واستقدم إلى الأستانة لعرض كتيبته ، فشخص إليها مع عدد وافر من عشيرته الجند الحميدي، في غاية من حسن البزة والرونق ، وقدم إلى السلطان من الخيول العربية ، والسمن العربي ، فسر السلطان بذلك وأعاده مكرماً ، فازدادت سطوته وعظمت نكايته بالعشائر والقرى المجاورة من أعمال أورفة وديار بكر ، حتى خرب الكثير منها ، بسبب جلاء أهلها ، وضرب على القوافل المارة ضريبة ، فإن لم تدفع انتهبها ، فضج أهل تلك الجهات ، وواصلوا الشكاوى عليه للولايات ولعاصمة السلطنة ، وبذلوا النفيس والغالي في ذلك ، وذهب أناس منهم إلى الأستانة للتظلم فلم يجدوا سميعاً ، لأنه كان لا يفتر عن تقديم الهدايا والرشوات الطائلة إلى القصر السلطاني ، من نقود وخيول وسمون ، ، ولما تمادى في عدوانه ، صار المشتكون يوالون البرقيات المحتوية على أشد العبارات التي يخاطب بمثلها السلطان عبد الحميد العظيم وأعانهم الولاة على ذلك ، إلى أن صدرت الإدارة بتأليف لجنة خاصة للتحقيق في ديار بكر ، فلم تستطع هذه اللجنة أن تأتي عملاً . ورجعت . وأخيراً وقبيل إعلان الدستور أصدر السلطان إرادته بإشخاص إبراهيم باشا وجنوده إلى الحجاز ، ليعاون جيش الدولة في ردع العشائر العربية التي قامت وقتئذ تعارض الدولة في مد السكة الحديدية الحجازية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، فامتثل إبراهيم باشا الأمر ، ونهض من محلة ويران شهر ، وقصد الحجاز من طريق حلب ودمشق ، وما كاد أن يستقر في دمشق إلا وأعلن الدستور ، وحدث الانقلاب ، فارتاع إبراهيم باشا ، وخشي أن يلقى القبض عليه ، فنهض في الليل من دمشق ، وكر راجعاً إلى حلب وويران شهر ، وحينما تحققت الحكومه هربه ، أرسلت في طلبه الجنود ، فلم يدركوه إلا في جهات ماردين معتصماً في جبل هناك ، فشددوا عليه الحصار مدة ، ولما علم أنه لا مناص له ركب جواده ، وقصد أن يسلم نفسه طائعاً ، وكان التعب والسهر قد انهكا جسمه ، وبينما هو راكب جواده إذ وقف ونزل إلى الأرض ، وفي برهة دقائق فاضت نفسه . والمروي عن هذا الرجل أنه كان يوجد عنده نحو مليونين من الليرات ، وأنه عمل نفقاً في الأرض وكنزها فيها ، وقتل المعمار الذي عمل له هذا النفق كي لا يخبر عنه ، وعلى كل حال فإن إبراهيم باشا كان على جانب عظيم من السخاء والدهاء والشجاعة، يتكلم بالكردية التي هي لغة آبائه وأجداده وعشيرته ، وبالعربية التي هي لغة أمه وزوجته ، وبالتركية التي هي لغة الدولة ،
ويذكر أنه أنشأ في سواريك مكاناً ، يشبه تكية يطعم فيها الفقراء والمسافرين رحمه الله » أ هـ .
وأملاك أبناء إبراهيم باشا في ناحية رأس العين واسعة كبيرة ، تبلغ آلاف الهكتارات ، وهي تمتد في الشرق من جسر قرية تل حلف إلى مكان اسمه نصف تل في الغرب ، وفي الشمال من الخط الحديدي إلى جبل البيضا في الجنوب ، وفيها براري ومراعي فسيحة جداً ، اجتزتها بالسيارة في أواخر شهر آذار سنة ١٩٤٧ م فأعجبت بامتدادهـا وانفساحها ، ووفرة أعشابها وأزهارها ، وأسفت على بوارها ، وفقدان أوقلة العمل فيها.