بعد ظهور بعض الشباب الملحد على صفحات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، معلناً تحدّ يه للمؤمنين ببعض الأسئلة التي يراها الملحد سبباً في عدم إيمانه، ومعتقداً اعتقاداً جازماً أن العقل البشري لا يستطيع الردّ عليه، كان من الواجب عرض هذه الأسئلة وإجابتها في صورة مناقشة هادئة بين العقلين.
القضية الأولى التي يتناقش حولَا المؤمن والملحد هي قضية وجود الله.
هل الله موجود؟ وما دليل ذلك؟
وما حقيقة قانون السببية الذي يعني أن لكل صنعة صانعاً؟
وأن لكل خلق خالقاً؟ ولكل موجود موجداً؟
وإن كان كما تقولون: النسيج يدل على الناسج، والرسم يدل على الرسّام،
والنقش يدل على النقّ اش، ألا يحق للعقل أن يسأل بنفس قانون السببية: من خلق الخالق؟
الجواب: إن سؤال من خلق الخالق؟ فاسد عقلاً ومنطقاً للآتي:
أولاً: لأنك جعلت الله خالقاً ومخلوقاً في نفس الوقت، فتقول: الله خالق وفي نفس الوقت تسأل: من خلق الله؟
فالله لو كان خالقاً لا يمكن أن يكون مخلوقاً! ولو كان مخلوقاً لا يمكن أن الخالق الذى خلق الخلق من العدم، ويستحيل عقلاً يكون خالقاً ! وهو تصور الجمع بين كونه خالقاً ومخلوقاً .
ثانياً: أنك تتصور أن الخالق يخضع لقوانين مخلوقاته، فالسببية قانوننا نحن المخلوقين (أبناء الزمان والمكان) والله الذي خلق الزمان والمكان خارج عن نطاق الزمان والمكان، لا يتقيد بِما، وهو الذي خلق قانون السببية وأيضاً لا يتقيد به.
فالإنسان الْلي مثلاً، يعمل بالريموت والبطارية، لا يمكن أن يصنع إنساناً آلياً مثله!
وقديماً ذكر (أرسطو) تسلسل الأسباب قائلاً: إن الكرسي من الخشب، والخشب من الشجرة، والشجرة من البذرة، والبذرة من الزارع، واضطر إلى القول بأن هذا الاستطراد المتسلسل في الزمن اللانهائي، لابد أن ينتهي بنا في البدء الأول إلى سبب في غير حاجة إلى سبب، ومحرك في غير حاجة إلى من يحركه، وهو كلام منطقي نفس ما نقوله عن الله سبحانه.
فالله تعالى هو الدليل الذي لا يحتاج إلى دليل، لأنه ظاهر في النظام والدقة والجمال والإحكام.
ظاهر بقدرته في ورقة الشجر، في ريشة الطاووس، في جناح الفراشة، في رائحة الورد، في ترابط النجوم والكواكب.
فلو قلنا: إن الكون قد جاء صدفة، لكنّا كمن تصور إلقاء قطع غيار سيارة في الَهواء لتتجمع وتصبح سيارة بدون شركة تصنيع!
فهل تستطيع المصادفة أن تنشئ طريقاً برياً سريعاً؟
أو هل تستطيع المصادفة أن تنشئ شركات للنقل وتنظم عملها بإتقان؟
وهل منطق التدليل على أن الصدفة قد تصل لدرجة دقة التصميم في الكون صحيح؟
قال (هلسكى): لو جئنا بستة قرود وأخذت القرود تضرب على (الكيبورد) مئات السنين، هل ستخرج بقصيدة كما هي قصائد شكسبير!
هذا بالطبع مستحيل! إنه مثال يدلّ ل عكس اتجاه الملحد! ويناقض فكرة اللا سبب.
ولو افترضنا حدوث ذلك! حيث إن القصيدة هذه جاءت عبر تفاعلات عدة أسباب لإنتاجها، فالقرود والضرب على الكيبورد، وجهاز الكمبيوتر نفسه، والحبر والورق والزمن، كلها أسباب تتفاعل لإنتاج هذه القصيدة، فلا نستطيع أن نقول إن القصيدة طبعت صدفة دون سبب.
فضلاً عن أن التفاعلات الطبيعية في الكون، لا يمكن أن تصل إلى دقة صنع هذا الكون العجيب.
إذن مثلما كان من المستحيل أن تظهر شركة للنقل مصادفة! فمن المستحيل أن يظهر جهاز الدورة الدموية في جسم الإنسان مصادفة.
ومثلما كان هناك من قام بقطع الفولاذ قطعة قطعة لتكوين المواد اللازمة لإنشاء برج (إيفل) مثلاً، كان هناك من خلق عظام الإنسان بِذه الأطوال المختلفة، ورتبها في جسم الإنسان بِهذا التركيب المتناسق مع شكله في صورة الَيكل العظمي، إنها القوة العظيمة، وإن الله تعالى هو صاحب هذه القوة.
ظاهرة الإلحاد وعلاقتها بالإيمان، والتقدم، والنزعة الإنسانية، والإبداع،
يمكن الكشف ضمنيا عن مفارقة وهى أن (الإلحاد الإنساني) يتكامل مع (الإيمان الروحي) جوهرياً، رغم تناقضهما الظاهري، فكلاهَّا يسعى إلى الارتقاء بالإنسان وزيادة سيطرته على مصيره سواء بجهده الذاتي كما يتصور الملحد الإنساني، أو بدعم العناية الإلَية كما يتصور المؤمن الروحي، أما التناقض الحقيقي فغالبا ما يدور بين طرفين متمايزين داخل المعسكر نفسه سواء الإلحادي أو الديني.
داخل المعسكر الإلحادي ثمة تناقض بين الملحد الإنساني والملحد العفوي.
الأول مشغول حقا بالمصير الإنساني، عميق في تأمله، يطلب لنفسه وللبشرية موقفا أكثر عقلانية وتحررا، ومساواة وعدلا، يتصور أن الأديان التاريخية قد وقفت حائلا دونه، لذا يسعى إلى الخلاص من وطأة ضغوطها جميعا.
أما الثاني: فلا يشعر بتلك المسئولية، ويسعى لإبراز التمايز وممارسة الاستعلاء على المتدينين، بذريعة رجعيتهم في مقابل تقدميته.
أما داخل المعسكر الديني، فثمة تناقض بين المؤمن الروحي والمتدين الشكلي.
الأول: يجعل من الدين جسّراً أرضياً يحتضن البشرية ويرعى مُثُلها العليا، كالعدالة والخير والتعاطف مع الْخرين، جسّا علويا أيضا يربط عالَم الشهادة بعالَ الغيب، يدفع بالروح الإنسانية إلى تجاوز نفسها والتعالي على ضعفها، بما يكفله من طمأنينة للنفس، وتساميها على غرائز الجشع والأنانية.
والثاني: يجعل من الدين جسّا للشقاق، يثير الأحقاد ويذكى الصراعاتعندما يتسم بطابع عنصري أو مذهبي، بحيث لا يتعرف مدّ عي التدين على نفسه إلا كنقيض للآخر، في سياق نفيه والتنكر له إلى درجة استباحة وجوده.
فالملحد الإنساني، رغم امتلاكه عقلاً مسئولاً وضميراً حياً، يدفعانه إلى الانشغال بالمصير الإنساني وكيفية تحريره من الخرافة والقهر، أما المؤمن الروحي، لكونه واسع الأفق، منشغلا فقط بتجسيد المبادئ السامية والمثل الرفيعة في عقيدته من دون وصاية على الْخرين الذين يراهم أحرارا مثله، لَهم حق تلقى عقائدهم وتفسيرها بحسب عقولَم وضمائرهم، أو حتى رفض هذه العقائد كلية، فالأغلب أن يكون متسامحا مع الملحد، ومن ثم فإن الحوار بينهما ممكن.
وقد يرد عليه الملحد، بأن تاريخ الأديان شهد من الصراعات والمجازر ما يتناقض مع هذا التسامح، وأن عموم المتدينين قد عجزوا عن تمثيل مغزى الحضور الإلَهي عندما حاولوا الحديث باسم الله، فجعلوا الإيمان مدخلا للاستبداد والقهر.
والأغلب أن حوارا كهذا، لن يقتلع الإيمان من قلب المتدين، أو الإنكار من عقل الملحد، الأمر الذى يفتح الباب على ثقافة أكثر رحابة وتعددية، خصوصاً في تلك المنطقة الملتهبة من عالمنا العربي الإسلامي.