وصية الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله لأحد أقاربه الذاهب في بعثة للدراسات العليا في باريس ( منذ حوالي 50 عاما ) يقول فيها :
انك تمشي الى بلد مسحور( والعوذ بالله ) ، الذاهب اليه لايؤوب ، الا أن يؤوب مخلوقا جديدا وانسانا غير الذي ذهب …. يتبدل دماغه الذي في رأسه ، وقلبه في صدره ، ولسانه الذي فيه، وقد يتبدل أولاده الذين هم من ظهره اذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك !
اي والله يا أخي ، هذه حال أكثر من رأينا وعرفنا ( الا من عصم ربك ) يذهبون أبناءنا واخواننا وأحباءنا ، ويعودون عداة لنا ، دعاة لعدونا ، جندا لاستعمارنا ، استعمار الرؤوس بالعلم الزائف ، والقلوب بالفن الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما يتبع ذلك من الأرتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور، وهاتيك الشرور .
فانتبه لنفسك واستعن بالله ، فانك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم العفاف ، ولا يحفل بالعرض ، سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة،
قد أذلتهن مدينة الغرب وأفسدتهن ، وهبطت بهن الى الحضيض فلا يأكلن خبزهن الا مغموسا بدم الشرف، وأنت لاتعرف من النساء الا أهلك ، مخدرات معصومات كالدٌر المكنون ، شأن نساء الشرق المسلم ، حيث المرأة عزيزة مكرمة ، محجوبة مخدرة ، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في شيء ….
قد أذلتهن مدينة الغرب وأفسدتهن ، وهبطت بهن الى الحضيض فلا يأكلن خبزهن الا مغموسا بدم الشرف، وأنت لاتعرف من النساء الا أهلك ، مخدرات معصومات كالدٌر المكنون ، شأن نساء الشرق المسلم ، حيث المرأة عزيزة مكرمة ، محجوبة مخدرة ، ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في شيء ….
فاياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك، أو يذهب بلبك جمال لها مزوَر ، أو ظاهر خداع، هي والله الحية : ملمس ناعم، وجلد لامع، ونقش بارع، ولكن في أنيابها السمَ ….. اياك والسمَ !
ان الله قد وضع في الانسان هذه الشهوة وهذا الميل ، وجعل له من نفسه عدواً (لحكمة أرادها ) ، ولكنه أعطاه حصناً يعتصم به ، وسلاحاً متيناً يدرأ به عن نفسه ، فتحصن بحصن الدين، وجرد سلاح العقل توقَ الأذى كله……
واعلم أن الله جعل من الفضيلة مكافأتها : صحة الجسم، وطيب الذكر وراحة البال ، ووضع في الرزيلة عقابها : ضعف الجسد، وسوء القالة وتعب الفكر، ومن وراء ذلك الجنة أو جهنم .
فان عرضت لك امرأة بزينتها وزخرفتها فراقب الله، وحكَم العقل، واذكر الأسرة والجدود …..
لاتنظر الى ظاهرها البراق بل انظر الى نفسها المظلمة القذرة، وماضيها الخبيث النتن، أتأكل من اناء ولغت فيه الكلاب ؟؟؟؟
يا أخي !
ان في باريز كل شيء : فيها الفسوق كله، ولكن فيها العلم، فان انت عطفت على زيارة المكتبات وسماع المحاضرات وجدت من لذة العقل ما ترى معه لذة الجسم صفراً على الشمال( كما يقول أصحابك الرياضيون ) ، ووجدت من نفعها ما يعلقك بها حتى لاتفكر في غيرها فعليك بها، واستق من هذا المورد الذي لاتجد مثله كل يوم .
ارجع وابحث وألف وأنشر، وعش في هذه السماء العالية، ودعك من شاء يرتع في الأرض ، ويغش على الجيف المعطرة .
غير أنك واجد في ثنايا هذه الكتب التي كتبها القوم المستشرقون عن العربية والاسلام،
وفي غضون هذه المحاضرات التي يلقونها عدواناَ كثيراَ على الحق، وتبديلاً للواقع، فانتبه له.
واقرأ ما تقرأ واصغ لما تسمع وعقلك في رأسك، وايمانك في صدرك، لاتأخذ كل ما يقولون قضية مسلمة وحقيقة مقررة، فالحق لا يكون باطلاً، وليس الحق ماكان قائله أوروبياً فانظر أبداً الى ما قيل ، ودع من قال !
ثم انك سترى مدينة كبيرة، وشوارع وميادين، ومصانع وعمارات …
فلا يهولنك ما ترى، ولاتحقر حياله نفسك وبلدك كما يفعل أكثر من عرفنا من رواد باريس. والعم أنها ان تكن عظيمة، وان يكن أهلها متمدنين، فما أنت من أواسط افريقيا ولابلدك من قرى التيبت….
وانما أنت ابن المجد والحضارات ابن الاساتذة الذين علموا هؤلاء القوم وجعلوهم ناساً، ابن الأمة التي لو حذف اسمها من التاريخ لأضحى تاريخ القرون الطويلة صحفا بيضا لا شيء فيها ، اذ لم يكن في هذه القرون بشر يدون التاريخ تاريخه سواهم…
فمن هؤلاء الذين ترى انما هم أطفال أبناء أربعة قرون، ولكن أمتك بنت الدهر، لما ولد الدهر كانت شابة، وستكون شابة حين يموت الدهر.
لاتقل :ما يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية، فان الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكان روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا على ضعفهم أن يصنعوا( هذه القوة) التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها غيرك …..
ان الدهر ياأخي دولاب، والأيام دول، وان في الشرق أدمغة, وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله اليه انت وأصحابك، وعودوا الى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتكم الخيرة العادلة، كما يعتز بها الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية،
واعلموا أن مهمتكم ليست ورقة تنالونها، قد تنالها بالغش والاستجداء والسرقة…. ولكن مهمتكم أمة تحبونها.
يا أخي !
اذا وجدت واسعاً من الوقت فادرس أحوال القوم وأوضاعهم في معايشهم وتجارتهم وصناعتهم ومدراسهم، وابحث عن أخلاقهم ومعتقداتهم، على أن تنظر بعين الناقد العاقل الذي يدون الحسنة لنتعلمها، والسيءة لنتجنبها،
ولا تكن كهؤلاء الذين كتبوا عن باريز من أبناء العرب، فلم يروا الا المحاسن والمزايا ، ولا كأولئك الذين كتبوا عن الشرق من أبناء الغرب، فلم يبصروا الا المخازي والعيوب، ولكن كن عادلا صادقا أمينا .
واياك وهذه الحماقات التي يرتكبها بعض الكتاب الفرنجة حين يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يعلمون.
وبعد يا أخي ، فاعلم أن أثمن نعمة أنعمها الله عليك هي نعمة الايمان فاعرف قدرها، واحمد الله عليها وكن مع الله تر الله معك وراقب الله دائما، واذكر أنه مطلع عليك، يعصمك من الناس ويعذك من الشيطان، ويوفقك الى الخير.
وفي اللحظة التي تشعر فيها أن دينك وأخلاقك في خطر، احزم أمتعتك وعد الى بلدك، وخل ( السوربون) تَنع من بناها …. وانفض يدك من العلم ان كان لا يجيء الا بذهاب الدين والأخلاق.
أستودعك الله نفسك ودينك وأخلاقك ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
( الشخص الموجه له الرسالة هو الدكتور عبد الغني الطنطاوي أول دكتور في الرياضيات في ديار الشام كلها وكان أستاذ في كلية العلوم جامعة دمشق ثم جامعة الملك عبد العزيز في جدة )